
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض﴾ إلى قوله: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
أي: قل يا محمد: ربي يعلم قولكم بينكم، ﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ويعلم غير ذلك في السماوات والأرض وهو السميع لجميع ذلك/، العليم بجميع خلقه، فيجازي كلا على قدر أعمالهم.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾.
أي: بل قال المشركون: الذي جاء به محمد أضغاث أحلام. أو هم أضغاث أحلام. أي: لم يصدقوا بالقرآن، ولا آمنوا به ولكن قالوا: هو أضغاث أحلام، أي رؤيا رآها في النوم.
" الأضغاث " الأخلاط. ومنه ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾.
وقال بعضهم: بل هي فرية واختلاق من عند نفسه.
وقال بعضهم: بل محمد... شاعر، فنقض بعضهم قول بعض.
ثم قالوا بعد ذلك. ونقضوا قولهم كلهم ورجعوا عن ما قالوا، فقالو: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾ أي: بل يأتينا محمد بآية تدل على صدقه، كما جاءت به الرسل قبل محمد؟ من مثل الناقة، وإحياء الموتى وشبهه. وذلك منهم تعنت، لأن الله تعالى قد

أعطاه من الآيات ما لهم فيها كفاية، وإنما دخلت " بل " في هذا وليس في الكلام جحد لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فدخلت " بل " لذلك.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ﴾.
في هذه الآية بيان لإثبات القدر، لأن المعنى: أن امتناع من تقدم من الكفار من الإيمان حتى هلكوا لا يوجب امتناع من بعدهم، لكن كل ذلك بقدر من الله جل ذكره؛ وتحقيق المعنى على قول المفسرين، مآ آمن قبل هؤلاء الذين كذبوا محمداً من أهل قرية عذبناها بالهلاك في الدنيا إذ كفروا بعد مجيء الآية.
﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ استفهام معناه التقرير. أي: فهؤلاء المكذبون محمداً السائلون الآية، يؤمنون إن جاءتهم آية. فلم يبعث الله تعالى إليهم آية لعلمه أنهم يكذبون بها، فيجب عليهم حلول العذاب. وقد تقدم في علمه أن ميعادهم الساعة.
قال تعالى: ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٨]. فلما كان أمر هذه الأمة وعقوبتها، أخّرها الله إلى قيام الساعة، لم يرسل إليها آية مما اقترحوا به من الآيات التي توجب حلول العذاب عليها إذ كفرت بعد ذلك كما فعل بالأمم الماضية.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ أي: وما أرسلنا قبلك يا محمد من الرسل إلا رجالاً مثل الأمم المرسل إليها. يوحي الله إليهم ما يريد. أي: لم يرسل

ملائكة، فما أنكر هؤلاء من إرسالك إليهم وأنت رجل مثلهم؟
وهذا جواب لقول المشركين: ﴿هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾.
ثم قال: ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
أي: اسألوا: أهل الكتب التي نزلت قبل كتابكم، يخبرونكم أنه لم تكن الرسل التي أتتهم بالكتب إلا رجالاً مثلهم.
قال سفيان: " يريد: اسألوا من أسلم من أهل التوراة والإنجيل ".
ويراد بالذكر: التوراة والإنجيل.
وروي عن عبد الله بن سلام: " أنه قال: " نزلت في ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر﴾ فهذا يدل على أن " الذكر " التوراة.
وقال قتادة: ﴿أَهْلَ الذكر﴾: " أهل التوراة ".
وقيل: ﴿أَهْلَ الذكر﴾ " أهل القرآن " من آمن منهم.
وقال علي: " نحن أهل الذكر ".
وقال ابن زيد: " الذكر: القرآن. لقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾ ".

ثم قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام﴾.
أي: وما جعلنا الرسل الذين أرسلنا في الأمم الخالية، جسداً لا يأكلون الطعام. أي: لم نجعلهم ملائكة، ولكن جعلناهم مثلك، يأكلون الطعام.
وقال قتادة: معناه: " ما جعلناهم جدساً إلا ليأكلوا الطعام ".
وقال الضحاك: معناه: " لم أجعلهم جسداً لا روح فيه، لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجساداً فيها أرواح يأكلون الطعام ". والجَسَدُ وُحِّدَ وقَبلَهُ جماعة، لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: وما جعلناهم خلقاً لا يأكلون الطعام.
والتقدير: ذوي جسد. وهذا جواب لقوهم ﴿وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام﴾ [الفرقان: ٧]. فأعلمهم [الله] أن الرسل تأكل الطعام، وأنهم يموتون. وهو معنى قوله: وما كانوا خالدين.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد﴾.
أي: صدقنا الرسل الوعد بإهلاك قومهم إذ سألوا الآيات، فأتتهم وكذبوا بها. كقوله تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ﴾ [المائدة: ١١٥].
﴿فَأَنجَيْنَاهُمْ﴾.
أي: أنجينا الرسل لما أتى العذاب لأممها. ﴿وَمَن نَّشَآءُ﴾ أي: وأنجينا من نشاء،

يعني: من آمن بالرسل، ﴿وَأَهْلَكْنَا المسرفين﴾ يعني: الذين أسرفوا/ على أنفسهم فكذبوا الآيات بعد أن أتتهم، فازدادوا كفراً بذلك، فهو إسرافهم.
ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾. يخاطب قريشاً. أيك فيه شرفكم إن آمنتم به، لأنه عليكم نزل، وبلغتكم. وهو قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ أي: حديثكم.
وقال سفيان: " نزل القرآن بمكارم الأخلاق "، فهو شرف لمن اتبعه وآمن به.
والذكر: يستعمل بمعنى الشرف: يقال فلان مذكور في هذا البلد، إذا كان فيه رفيعاً مذكوراً بالشرف والفضل.
وقيل: معناه: فيه [ذكركم أي]: ذَكَّرْنَاكُم به أَمْرَ دينكم وأمر آخرتكم ومعادكم فجعله ذكرهم، إذ كان به يذكرهم ما وصفنا. وقد قال الله تعالى: