
هَذِهِ الْآيَةُ،
ثُمَّ فَسَّرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِخِلَافِهِ، فَإِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى أَحَدِهِمَا أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ سَمِعْتُ فُلَانًا يَذْكُرُكَ، فَإِنْ كَانَ الذَّاكِرُ صَدِيقًا فَهُوَ ثَنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا فَهُوَ ذَمٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٠] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُبْطِلُ كَوْنَهَا مَعْبُودَةً وَيُقَبِّحُ عِبَادَتَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ فالمعنى أنه يَعِيبُونَ عَلَيْهِ ذِكْرَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي لَا تَضُرُّ ولا تنفع بأسوء، مَعَ أَنَّهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ الْمُنْعِمُ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ كَافِرُونَ وَلَا فِعْلَ أَقْبَحُ من ذلك، فيكون الهزء وَاللَّعِبُ وَالذَّمُّ عَلَيْهِمْ يَعُودُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنُ وَالْكُتُبُ، وَالْمَعْنَى فِي إِعَادَتِهِمْ أَنَّ الْأُولَى إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَالثَّانِيَةَ إِبَانَةٌ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي أعادتها تأكيدا وتعظيما لفعلهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٧ الى ٤١]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ مِنَ الْإِنْسَانِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ النَّوْعُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّه تَعَالَى وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الملك: ٢٥] فَأَرَادَ زَجْرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدَّمَ أَوَّلًا ذَمَّ الْإِنْسَانِ عَلَى إِفْرَاطِ الْعَجَلَةِ ثُمَّ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْعُدُ مِنْكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوا فَإِنَّكُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ طَبْعُكُمْ وَسَجِيَّتُكُمْ، فَإِنْ قِيلَ: مُقَدِّمَةُ الْكَلَامِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُنَاسِبَةً لِلْكَلَامِ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقًا مِنَ الْعَجَلِ يُنَاسِبُ كَوْنَهُ مَعْذُورًا فِيهِ فَلِمَ رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ قَوْلَهُ: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعَائِقَ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عليه مُخَالَفَتِهِ أَكْمَلَ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ والضحاك،
وروى ابن جريج وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّه آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ آخِرِ نَهَارِ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ رَأْسَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ أَسْفَلَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ خَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ،
قَالَ لَيْثٌ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ
وَعَنِ السُّدِّيِّ لَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ للَّه، فَقَالَ ذَلِكَ: فَقَالَ اللَّه لَهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْرَثَ أَوْلَادَهُ الْعَجَلَةَ.
وَثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ

هذه الآية في النضر بن الحرث وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ الْغَرَضَ ذَمُّ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا لَفْظَ الْإِنْسَانِ عَلَى النَّوْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ أَجْرَى هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَبَهَا، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَلَهُمْ فِيهَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أَيْ خُلِقَ/ عَجُولًا، وَذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا قِيلَ لِلرَّجُلِ الذَّكِيِّ: هُوَ نَارٌ تَشْتَعِلُ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُسَمِّي الْمَرْءَ بِمَا يَكْثُرُ مِنْهُ فَتَقُولُ: مَا أَنْتَ إِلَّا أَكْلٌ وَنَوْمٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَّا إِذَا ذُكِرَتْ حَتَّى إِذَا غَفَلَتْ | فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ |
الْعَجَلُ الطِّينُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ وَأَنْشَدُوا:
وَالنَّخْلُ يَثْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ
وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: (مِنْ عَجَلٍ) أَيْ مِنْ تَعْجِيلٍ مِنَ الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ كُنْ. وَرَابِعُهَا: مِنْ عَجَلٍ، أَيْ مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَمَّا الَّذِينَ قَلَبُوهَا فَقَالُوا الْمَعْنَى: خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ [الأحقاف: ٢٠] أَيْ تُعْرَضُ النَّارُ عَلَيْهِمْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَأَبْعَدُ الْأَقْوَالِ هَذَا الْقَلْبُ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى صَحِيحٍ وَهُوَ عَلَى تَرْتِيبِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: خُلِقَتِ الْعَجَلَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمَجَازِ. فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَغْيِيرِ النَّظْمِ إِلَى مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي الْمَجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ اسْتَعْجَلُوا الْوَعْدَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَعْجِلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ. قُلْنَا: اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَدْخَلُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ إِذَا ذَمَّ الْمَرْءُ اسْتِعْجَالَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ فَبِأَنْ يَذُمَّ عَلَى اسْتِعْجَالِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُ كَانَ أُولَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ أَوْ هَلَاكِ الدُّنْيَا يَتَضَمَّنُ اسْتِعْجَالَ الْمَوْتِ وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ فَكَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ فِي الْحَقِيقَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَاتِ عَلَى أقوال: أحدها: أنها هِيَ الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أَيْ أَنَّهَا سَتَأْتِي لَا مَحَالَةَ فِي وَقْتِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهَا أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ وَصِدْقُ الرَّسُولِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا آثَارُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بِالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى النَّظْمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الِاسْتِعْجَالُ الْمَذْمُومُ الْمَذْكُورُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٣] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي رَفْعِ هَذَا الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِأَنْ بَيَّنَ مَا لِصَاحِبِ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ فَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : صفحة رقم 145