وسادسا- خلق الليل والنهار، وهذا تذكير بنعمة أخرى على الناس، فالله جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه وينطلقوا لمعايشهم، وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، لتعلم الشهور والسنون والحساب، وكل من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة في فلك خاص، كالسابح في الماء.
موت جميع الخلائق ومجيء القيامة أو عذاب النار بغتة
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٤١]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
الإعراب:
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ حقّ همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف الشرط كما هنا: أن
تكون رتبتها قبل جواب الشرط. وفي هذه الآية دليل على أنّ إن إذا دخلت عليها همزة الاستفهام، لا تبطل عملها، كقولك: إن تأتني آتك لدخول الفاء في فهم وفاء فَهُمُ لتعلق الشرط بما قبله، والهمزة لإنكاره، بعد ما تقرر ذلك.
فِتْنَةً مفعول لأجله.
أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فيه محذوف تقديره: قائلين: أهذا الذي يذكر آلهتكم، وهو في موضع الحال، وحذف القول كثير في كلامهم.
وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الجملة في موضع الحال، أي يتخذونك هزوا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية، وهي الكفر بالله تعالى.
البلاغة:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ التنكير للتعميم.
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً يوجد طباق بين الشر والخير.
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مبالغة في وصف الإنسان، جعل لفرط استعجاله، كأنه مخلوق من العجل نفسه، كقول العرب لمن لازم اللعب: هو من لعب.
الْخالِدُونَ كافِرُونَ تَسْتَعْجِلُونِ يُنْصَرُونَ يُنْظَرُونَ يَسْتَهْزِؤُنَ بينها سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
الْخُلْدَ الخلود والبقاء في الدنيا. فَهُمُ الْخالِدُونَ في الدنيا؟ لا، وهذه الجملة محل الاستفهام الإنكاري. ذائِقَةُ الْمَوْتِ في الدنيا، والذوق هنا: الإدراك، والمراد من الموت:
مقدماته من الآلام الشديدة، والمدرك: هي النفس المفارقة للبدن. وجملة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ برهان على ما أنكره من الخلود للنفوس في الدنيا. وَنَبْلُوكُمْ نختبركم أي نعاملكم معاملة المختبر. بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ بالبلايا والنعم، أو المحبوب والمكروه، كفقر وغنى، وسقم وصحة، وذلّ وعزّ. فِتْنَةً أي ابتلاء، وهو مصدر من غير لفظ الفعل المتقدم، أي لننظر: أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم حسبما يوجد منكم من الصبر والشكر. وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء.
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به، مسخورا منه. أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟ أي يقولون: أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي إذا ذكر الإله
الرحمن الواحد. هُمْ الثانية تأكيد كفرهم. كافِرُونَ به، إذ قالوا: ما نعرفه، أي لا يصدقون به أصلا، فهم أحق منك بأن يتخذوا هزوا، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل: معنى بذكر الرحمن: قولهم ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة. وقيل: بذكر الرحمن: معناه بما أنزل عليك من القرآن.
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي أنه لكثرة عجله في أحواله، كأنه خلق منه، ومن عجلته:
مبادرته إلى الكفر. سَأُرِيكُمْ آياتِي أي مواعيدي بالعذاب، في الدنيا كوقعة بدر، وفي الآخرة عذاب النار. فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فيه أو بالإتيان به.
مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ أي بالقيامة. صادِقِينَ فيه، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.
لا يَكُفُّونَ يدفعون. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون منها في القيامة. وجواب لَوْ: ما قالوا ذلك. بَلْ تَأْتِيهِمْ القيامة أو النار. بَغْتَةً فجأة. فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم، أو تغلبهم.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فَحاقَ نزل أو أحاط.
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب، وهو وعد للنبي صلّى الله عليه وسلم بأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا أي جزاءه.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٤) :
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ.. نزلت هذه الآية، لما قال الكفار: إن محمدا سيموت، قائلين: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور ٥٢/ ٣٠].
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه، فقال: يا رب، فمن لأمتي؟ فنزلت: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية.
نزول الآية (٣٦) :
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان،
وقال: أتنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل، فوقع به، وخوّفه، وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة، فنزلت الآية: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً.
نزول الآية (٣٧) :
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ نزلت هذه الآية في استعجالهم العذاب، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى أدلة ستة على وجود الخالق المتصف بالوحدانية، أبان أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق جميعا إلى الله تعالى للحساب والجزاء، ثم ذكر أن مجيء القيامة أو العذاب بالنار آت بغتة لا محالة، فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
التفسير والبيان:
ينفي الحق تعالى الخلود في الدنيا لأحد من المخلوقات، فيقول:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي قضى الله تعالى ألا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت يا محمد ولا أحد ممن سبقك أو عصاك أو يأتي بعدك إلا عرضة للموت، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك.
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ أي هل إذا متّ أنت أيبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا، بل الكل ميتون، فلا يؤملون أن يعيشوا بعدك.
وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا.
ونظير الآية قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٦- ٢٧].
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد مات، فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الآية.
واستدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن لأنه بشر، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا.
وتأكيدا لبيان موت جميع البشر، قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت قبل مفارقتها الجسد،
جاء في الحديث: «إن للموت لسكرات» «١»
فلا يفرح أحد بموت أحد، ولا يشمت أو يتشفى لوفاته، فالكل متجرع كأس المنون. والذوق هنا: مجاز عن الإدراك. والمراد بالموت هنا: مقدماته من الآلام العظيمة.
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أي نبتليكم ونختبركم بالبلايا والنعم، أو بالمحبوب والمكروه، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، اختبارا وامتحانا، لنعلم أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وقوله فِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه
روى ابن ماجه في معناه: «اللهم أعني على سكرات الموت».
والمراد من ذلك: أنا نعاملكم معاملة من يختبركم، لنعرف الصابر في الشدائد، والشاكر في الرخاء.
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلينا، أي إلى حكمنا ومحاسبتنا ومجازاتنا، فنجازيكم بأعمالكم. وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب.
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، والتكليف لا يكون إلا بعد البلوغ والعقل، فالآية دالة على حصول التكليف، والتكليف لا يقتصر بالمكلف على ما أمر به ونهي عنه، بل ابتلاه بأمرين:
أحدهما- ما سماه خيرا: وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور.
والثاني- ما سماه شرا: وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين.
وإنما سمي ذلك ابتلاء، والله عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار.
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي وإذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشباهه، ما كان همهم إلا السخرية منك، وما يتخذونك إلا مهزوءا به، فيستهزءون بك وينتقصونك، وكان جديرا بهم التفكير في سلوكك وأخلاقك، وفيما ينزل عليك من وحي فيه عظة وذكرى للعقلاء، وهم الذين حمى الله نبيهم منهم بقوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر ١٥/ ٩٥].
وهم القائلون: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقولون تعجبا واستنكارا:
أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم
وأنعم عليهم، وإليه مرجعهم، وهُمْ الثانية توكيد كفرهم أي فهم الكافرون، مبالغة في وصفهم بالكفر. والمراد أنهم كيف يعجبون منك ومن صنيعك بنبذ آلهتهم ووصفها بالسوء، وهم أشد عجبا، إذ يكفرون بالله، ويستهزئون برسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا، أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٤١- ٤٢].
والخلاصة: أنهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت، ولا فعل أقبح من ذلك، فالهزء والذم يعود عليهم من حيث لا يشعرون، وهم أحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه.
وبالرغم من هذا فهم أناس حمقى طائشون متهورون يستعجلون بمجيء العذاب الذي تهددهم به يا محمد، فقال تعالى:
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجولا، أو فطر الإنسان على العجلة، والمراد نوع الإنسان، وقيل: إنه شخص معين، حتى لكأن التعجل جزء من تكوينه وفطرته، وسجيته وطبعه كما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا في الأمور [الإسراء ١٧/ ١١]، فاستعجل هؤلاء المشركون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، فالمراد بالآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول، أو الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها، ثم حكى الله تعالى قولهم:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنهم يستعجلون أيضا
بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا، وكفرا وعنادا، واستبعادا لحدوثه، فيقولون على سبيل الاستهزاء للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين لجهلهم وغفلتهم: متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! فقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يا معشر المؤمنين.
أراد تعالى نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدّم أولا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم عن استبطاء الموعود به بقصد إنكار وقوعه وعدم تصوره أصلا، ثم بيّن مدى حماقتهم بهذا الطلب فقال:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ.. أي لو تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، لما استعجلوا، ولو علموا أحوال عذاب النار التي تحيط بهم من الأمام والخلف وجميع الجهات، وحين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فلا يستطيعون ردّ النار عن وجوههم، ولا دفعها عن ظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينصرهم ويمنعهم من العذاب وينقذهم منه كما قال تعالى: وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد ١٣/ ٣٤]، وجواب لَوْ محذوف، أي لو علموا وقت الوعيد، لما أصروا في البقاء على كفرهم، ولما استعجلوا هذا العذاب الشديد.
والعلم في قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ بمعنى المعرفة، فلا يقتضي مفعولا ثانيا، مثل لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال ٨/ ٦٠].
وإنما خص الوجوه والظهور لأن شدة تأثرها بالعذاب أكثر.
ونظير الآية: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦]، وقوله أيضا: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١]، وقوله كذلك: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم ١٤/ ٥٠] فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.
ثم أبان الله تعالى كما هو المعتاد في قرآنه أن وقت مجيء العذاب مجهول فقال:
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي بل إن الساعة تأتيهم فجأة، فتحيرهم وتغلبهم، فلا يجدون حيلة لردها، ولا هم يمهلون ويؤجلون لتوبة أو معذرة، لفوات الوقت. وهذا تذكير بإمهاله إياهم، وإعطائهم فرصة واسعة للتذكر والإيمان، والعدول عن الكفر والضلال، فلا يمهلون بعد طول الإمهال.
والسبب في عدم العلم بمجيء الساعة هو جعل العبد أشد حذرا، وأقرب إلى تدارك الأخطاء، فلا يتكل ولا يتوانى لحين حدوث العذاب.
ورجوع الضمير المؤنث في قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً هو إلى النار، أو إلى الوعد لأنه في معنى النار، أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة (القيامة).
ثم سلا رسوله صلّى الله عليه وسلم عن استهزائهم به وتكذيبهم له، فقال:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ.. أي إن لك في الأنبياء عليهم السلام أسوة، فقد استهزئ برسل كثيرين من قبلك، فنزل بالساخرين المستهزئين العذاب جزاء ما فعلوا، وسينزل أيضا بمن استهزأ بك العذاب والبلاء جزاء استهزائهم، كما حدث بأسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، ذلك العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا، وَأُوذُوا، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الإنعام ٦/ ٣٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لا خلود لأحد من المخلوقات في دار الدنيا، وكل من عليها فان، وكل
نفس ذائقة الموت، فإن مات النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أفهم الخالدون إن مات؟! ٢- الدنيا دار ابتلاء واختبار، والاختبار كما يكون بالشر يكون بالخير، فيختبر الناس بالشدة والرخاء، والحلال والحرام، وينظر كيف شكرهم وصبرهم، ثم يكون المرجع والمآل إلى الله تعالى للجزاء بالأعمال.
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، فتدل الآية على حصول التكليف، ولا يقتصر الابتلاء على المأمور به والمنهي عنه، وإنما يشمل ما سماه خيرا وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، وما سماه شرا وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، والعبد يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح والنعم، ويصبر في المحن.
٣- العموم في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ من قبيل العموم المخصوص، فإنه تعالى نفس لقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة ٥/ ١١٦] مع أن الموت لا يجوز عليه، وكذا الجمادات لها نفوس، وهي لا تموت. والعام المخصوص حجة، فيبقى معمولا به فيما عدا هذه الأشياء.
٤- الكفار المستهزئون بالنبي صلّى الله عليه وسلم الذي يعيب اتخاذ الأصنام آلهة أحق وأجدر بالاستهزاء والسخرية لكفرهم بالإله الحق الخالق المنعم المتفضل على الناس بأصناف النعم الكثيرة.
٥- ركّب الإنسان على العجلة، فخلق عجولا، وصار طبع الإنسان العجلة، ولكن في العجلة أحيانا حماقة وطيش وجهل وغفلة، كما في حال استعجال المشركين نزول العذاب الموعود.
٦- إن مجيء الساعة أو وقت العذاب بالنار محقق، ولكنه يأتي فجأة، فلا يبقى مجال لتوبة واعتذار.