
(فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥)
الإشارة في (تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ) إلى (يَا وَيْلَنَا)، وسميت تلك دعوى يَدْعونها؛ لأنها بصيغتها تفيد نداء ويلهم كأنهم يقولون يا ويلنا ندعوك، الإشارة كما ذكرنا إلى قولهم يا ويلنا، وهي دعوى لأنها طلب لهم، والدعوى تطلب على طلب أمر من الأمور، وأكثر ما تكون أمام القضاء، فهي المطلب الحق تزعمه صاحبه، ويعتقد أنه حق، وسمي طلبهم دعوى مع أنه أقرب إلى الدعاء غير أنهم لَا يطلبونه ضارعين مبتهلين حتى يسمى دعاء، لأنهم مشركون، إنما يطلبونه لأنه استحقاق لهم بحكم ما ارتكبوه من ظلم، وقوله تعالى: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ) " الفاء " فاء الإفصاح، و (مَا زَالَت) تدل على استمرار هذه الدعوى وبقائها، واستمرارها يدل على استمرار التحسر والتوجع والشعور بالهلاك، أي أنهم استمروا على الشعور بالتحسر والبكاء على ما كان، وأشد ما يؤلم العاتي الظالم شعوره بعتوه ولقاء معتبه، وقد صرح الله تعالى في قرآنه العظيم بالنهاية لذلك البكاء المرير بقوله تعالت كلماته: (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِين) والحصيد فعيل بمعنى مفعول وهو الزرع المحصود المقطوع

الذي جف عوده شيئا فشيئا حتى يصير حطاما لانقطاع سبب الحياة عنه، وهذا فيه تشبيه لحالهم بحال الزرع المحصود الملقى المقطوع عن أسباب الحياة، كما انقطعت أسباب الحياة عنهم، وهذا تصوير لحلال هلاكهم ونزول الويل الشديد بهم، وأكد حالهم بقوله تعالى: (خَامِدِينَ)، والوصفان كناية عن موتهم وهمودهم، وأصل الخمود من قولهم خمدت النار خمودا طفئ لهيبها، ومنه استعير خمدت الحمى، وكأن هناك تشبيها آخر بعد تشبيههم بالزرع المحصود، شبههم أيضا بالنار الذي أطفئ لهيبها، وفي ذلك إشارة إلى ما كانوا يشعلونه من إيذاء، وما يوقدون من حروب مفرقة تجمح فيها النفوس عن مواطن الاطمئنان، وليس هنا ثلاثة مفعولات لـ (جعلنا)، إنما هنا مفعولان فقط، و (خَامدِينَ) حال، وليست مفعولا ثالثا، وأضاف سبحانه وتعالى الفعل إليه بالصيغةَ التي تليق بعظمته (جَعَلْنَاهُمْ) إرهابا وإفزاعا، والإشارة بأن الذي يتولى هلاكهم هو الله جل جلاله، وتقدست ذاته وأفعاله.
* * *
الله خالق السماء والأرض وبه ثبت وجوده
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ

عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
* * *
اللعب هو الفعل الذي لَا مقصد له، ويقال لعب فلان إذا كان فعله، لَا مقصد له أو ما قصد به قصدا جديا له غاية تليق بالحكماء، وأصله كما قال الراغب في مفرداته من اللعاب وهو البزاق السائل الذي لَا يكون إلا ممن لَا يملك قوة مانعة منه، وغير العقلاء، والله سبحانه وتعالى منزه عن أن يفعل فعلا لغير مقصد صحيح، وإن كان لَا يسأل عما يفعل، ولذا قال تعالى: