٤- يصون الله تعالى حياة الأنبياء ويعصمهم من الناس، وينجز لهم وعده بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم، وينجي معهم المؤمنين المصدقين برسالاتهم، ويهلك الله المشركين المكذبين لهم.
٥- إن القرآن الكريم سبب لرفعة شأن العرب لأنه نزل بلغتهم، وفيه أحكام الشرع، وبيان مصير الناس في الآخرة، وما يلقونه من ثواب وعقاب.
وهو أيضا عظة وعبرة، يرغب ويبشر، ويحذر وينفر، ويأمر وينهى، ويرشد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويوضح ما فيه سعادة الدارين، ويرشد البشرية كافة إلى اتباع النظام الأصلح.
٦- يحث القرآن الكريم دائما على تدبر ما جاء فيه من أحكام، وتفهم ما تضمنه من نظام سديد في الدين والدنيا والآخرة.
الإنذار بعذاب الاستئصال والتذكير بعجائب الخلق
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ٢٠]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
الإعراب:
فَما زالَتْ تِلْكَ تِلْكَ مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا، وكذلك دَعْواهُمْ.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ.. مَنْ: مبتدأ، وَلَهُ: خبره. وذهب الأخفش إلى أنه في موضع رفع بالظرف.
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ.. مبتدأ وخبر، وليس معطوفا على مَنْ فِي السَّماواتِ.
فإن جعل معطوفا كان قوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ في موضع الحال، أي غير مستكبرين، وكذلك لا يَسْتَحْسِرُونَ أي غير مستحسرين.
البلاغة:
حَصِيداً خامِدِينَ تشبيه بليغ، أي جعلناهم كالزرع المحصود، وكالنار الخامدة.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ في قوله: نَقْذِفُ استعارة تمثيلية، شبّه الحق بشيء صلب جامد، والباطل بشيء رخو، وأستعير لفظ القذف لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل، كما يرمي الإنسان شيئا فيتلفه.
المفردات اللغوية:
وَكَمْ خبرية تفيد كثرة وقوع ما بعدها، فهي صيغة تكثير قَصَمْنا أهلكنا وأصل القصم: كسر بتفريق الأجزاء وإبانة تلاؤمها، وهو يدل على غضب عظيم. أما الفصم فلا يدل على تفريق الأجزاء، فهو كسر من غير إبانة مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية كانَتْ ظالِمَةً كافرة، وهي صفة لأهلها، ووصف بها القرية لأنها أقيمت مقام أهلها وَأَنْشَأْنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ مكانهم.
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس، والضمير عائد لأهل القرية المحذوف، أي شعر أهل القرية بالإهلاك. والإحساس: الإدراك بالحاسة، وهو هنا الإدراك بحاسة البصر، والبأس: الشدة يَرْكُضُونَ يهربون مسرعين، والركض: الفرار والهرب بسرعة،
وأصله: ضرب الدابة وكدّها بالرجل، ومنه قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص ٣٨/ ٤٢].
أُتْرِفْتُمْ أي نعمتم، والإتراف: التنعم والتلذذ، أو إبطار النعمة. وَمَساكِنِكُمْ التي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أي لتسألوا غدا عن أعمالكم أو تعذبون، فإن السؤال من مقدمات العذاب يا وَيْلَنا يا هلاكنا، ويا: للتنبيه ظالِمِينَ بالكفر فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمات دَعْواهُمْ أي دعوتهم التي يردّدونها، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة حَصِيداً محصودين، كما يحصد الزرع بالمناجل، بأن قتلوا بالسيف خامِدِينَ ميتين، كخمود النار إذا طفئت.
لاعِبِينَ عابثين، بل دالين على قدرتنا ومرشدين عبادنا لَهْواً ما يلهى به من زوجة أو ولد. والفرق بين اللعب واللهو: أن الأول لا يقصد به هدف صحيح، والثاني يقصد به الترويح عن النفس مِنْ لَدُنَّا من عندنا من الحور العين والملائكة إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ذلك، لكنا لم نفعله فلم نرده.
نَقْذِفُ نرمي رميا بعيدا بِالْحَقِّ الإيمان عَلَى الْباطِلِ الكفر فَيَدْمَغُهُ يذهبه ويقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو، وإصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ذاهب وهالك وزائل وَلَكُمُ يا كفار مكة الْوَيْلُ العذاب الشديد مِمَّا تَصِفُونَ الله به من الزوجة أو الولد.
وَلَهُ لله تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لا يتعظمون وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يكلون ولا يعيون ولا يتعبون يُسَبِّحُونَ ينزهونه ويعظمونه دائما لا يَفْتُرُونَ لا يضعفون.
المناسبة:
هذه الآيات مبالغة في زجر الكفار عن عصيانهم وكفرهم، فبعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك المسرفين في تكذيبهم وكفرهم بالله، ونصر الأنبياء المرسلين عليهم، وأسقط اعتراضاتهم التي أظهرت إعجاز القرآن، وأوضحت أن إيراد تلك الاعتراضات كان لحب الدنيا وحب الرياسة فيها، بالغ تعالى في زجرهم عن ذلك، فقال:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أي كثيرا ما أهلكنا من أهل القرى الذين كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب
الرسل، وأوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم قوما آخرين مكانهم، كما قال تعالى في آية أخرى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء ١٧/ ١٧] وقال تعالى:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج ٢٢/ ٤٥].
والمراد بالقرية: مدائن كانت باليمن، وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور، وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له: ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين لأن قصة «حضور» قبل زمن عيسى عليه السلام، وبعد مئات من السنين من زمن سليمان عليه السلام، لكنهم قتلوا نبيهم، وكانت «حضور» بأرض الحجاز من ناحية الشام «١».
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، كما وعدهم نبيهم، إذا هم يفرون هاربين منهزمين من قريتهم، لما أدركتهم مقدمة العذاب.
لا تَرْكُضُوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ... أي يقال لهم تهكما واستهزاء:
لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم والسرور، والمعيشة الرغيدة، والمساكن الطيبة، لعلكم تسألون عما كنتم فيه، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو يسألكم الناس: لماذا نزل هذا العذاب؟! وقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ، فأجابوا:
قالُوا: يا وَيْلَنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إنهم اعترفوا بذنوبهم حين
لا ينفعهم ذلك، فقالوا: يا هلاكنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بربنا. وهذا اعتراف صريح منهم بالكفر الموجب للعذاب.
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ أي فما زالوا يرددون تلك المقالة، وهي الاعتراف بالظلم، حتى حصدناهم حصدا، وخمدت حركاتهم، وسكنت أصواتهم خمودا كالنار التي أصبحت خامدة لا حياة فيها.
فقوله: تِلْكَ إشارة إلى قولهم: يا وَيْلَنا.. إلخ لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم. والدعوى هنا بمعنى الدعوة أي المطلب، قال تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس ١٠/ ١٠] وسميت دعوى لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا: يا وَيْلَنا والمولول كأنه يدعو الويل، فيقول: تعال يا ويل، فهذا وقتك. والحصيد: الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، تشبيها لهم به في استئصالهم، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي مثل الرماد، فهم يشبهون الحصيد والخمود.
وعقابهم هذا حق وعدل جزاء إنكار هم النبوة، وجعلهم معجزات النبي عبثا ولعبا، لذا أبان تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالعدل فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي وما أوجدنا السموات والأرضين إلا بالحق، أي بالعدل والقسط، لا للهو واللعب، فإنا خلقناها لفائدة دينية هي أن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ولمنافع أخرى دنيوية وغيرها، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولعبا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص ٣٨/ ٢٧] ثم أكد تعالى نفي اللعب فقال:
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ أي لو شئنا أن نتخذ ما يلهو كما يتخذ العباد من الزوج والولد، لاتخذناه مما لدينا من الملائكة والحور العين، إن كنا نقصد اللهو ونفعل اللعب. واللهو: المرأة بلسان أهل اليمن، والولد أيضا لأنه ملازم للمرأة.
وهو كقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر ٣٩/ ٤]. وهذا رد على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله تعالى.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي بل إننا نبين الحق، فيدحض الباطل ويزيله، فإذا هو زائل مبدّد، ذاهب مضمحل.
وبَلْ هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، فليس من صفاتنا وحكمتنا اللعب، وإنما تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، بل من عادتنا تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق.
وقد استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة التي ترسخ في الأذهان، وتدل على قوة الحق، وضعف الباطل، حتى لكأنه غير موجود.
وإذا كان هذا من شأننا فكيف لا نبين الحق وننذر الناس، وإلا كنا لاهين لاعبين. فقوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ معناه: ما كنا فاعلين، مثل إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر ٣٥/ ٢٣] أي ما أنت إلا نذير. وأَنْ بمعنى الجحد، وقيل:
إنها بمعنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد.
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي ولكم أيها القائلون: لله ولد، أو أيها
المشركون الظالمون الهلاك والدمار والعذاب الشديد لوصفكم ربكم بما ليس من صفته، وتقولكم وافترائكم عليه أنه اتخذ صاحبة أو زوجة، وولدا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وكيف يكون لله شريك خاص، وهو مالك جميع من في السموات والأرض، وكيف تتنكرون لطاعته، وله تعالى جميع المخلوقات ملكا وخلقا وعبيدا؟! الكل ومنهم الملائكة طائعون خاضعون له، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا، لذا قال:
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي وجميع من عنده من الملائكة لا يترفعون عن عبادته، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون.
والعندية هنا ليست مكانية، وإنما هي عندية مكانة وتشريف. وتخصيص الملائكة بالذكر هنا لإبانة رفعة شأنهم.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لا يَفْتُرُونَ أي يعبدون الله وينزهونه في الليل والنهار، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه، لا ينقطعون عن الطاعة ولا يفترون ساعة عنها، كما قال تعالى:
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم ٦٦/ ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الإنذار الشديد الأكيد لأهل الكفر والعصيان الذين أنكروا النبوات بحال أهل القرى الظالمة الكافرة، حيث دمرها الله تعالى تدميرا شديدا بمن فيها، لظلمهم، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.
٢- عند دنوّ العذاب تقع الحيرة والاضطراب، وتحدث محاولات الفرار من
القرية، فيركض أهلها هاربين منها، والركض: العدو بشدة الوطء، فتناديهم الملائكة استهزاء: لا تركضوا ولا تفرّوا، وارجعوا إلى مواطن الترف والنعم التي كانت سبب بطركم، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم.
ولما قالت لهم الملائكة: لا تَرْكُضُوا ونادت: يا لثارات الأنباء! ولم يروا شخصا يكلمهم، عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم، بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وهذا اعتراف منهم بأنهم ظلموا، حين لا ينفع الاعتراف.
وما زالوا يقولون: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ حتى أصبحوا أثرا بعد عين، وجثثا هامدة لا حراك فيها، وتم استئصالهم، وحصدوا بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، وصاروا خامدين ميتين.
٣- لما بيّن الله تعالى إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم، أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه، ومجازاة على ما فعلوا، وهو خلق السموات والأرض بالعدل والقسط: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان ٤٤/ ٣٩] فهو تعالى خلقها لفوائد دينية ودنيوية، أما الدينية: فليتفكر المتفكرون فيها، كما قال تعالى:
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران ٣/ ١٩١] وأما الدنيوية: فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعدّ ولا تحصى.
وبما أن خلق السموات والأرض حق لا لعب فيه، فإن المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلّى الله عليه وسلم هي حق أيضا لا لعب فيها، تقرر صحة نبوته، وترد على منكريها.
٤- إن خلق السموات والأرض للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء والمحسن، وليس خلقها ليظلم بعض الناس بعضا،
ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا ولا يجازوا، فذلك هو اللعب بعينه.
٥- تعالى الله وتقدس وتنزه عن اتخاذ الزوجة والولد، فذلك من اللهو، ولو أراد الله أن يتخذ لهوا من زوجة أو ولد لاتخذه من عنده لا من عند الناس.
وهذا رد واضح على من قال: المسيح أو عزير ابن الله، والأصنام أو الملائكة بنات الله تعالى.
٦- يبين الله تعالى الحق ومنهجه لدحر الباطل وزخارفه، والحق هنا:
القرآن، والباطل: الشيطان وكذب الكفار ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وللكفار الويل، أي العذاب في الآخرة بسبب وصفهم الرب بما لا يجوز وصفه وهو اتخاذه سبحانه الولد.
٧- إذا كان كل من في السموات والأرض لله خلقا وملكا، فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه؟! وأما الملائكة الذين ذكر المشركون أنهم بنات الله فلا يأنفون عن عبادة الله والتذلل له، ولا يعيون ولا يتعبون ولا يملون، وهم دائما في الليل والنهار يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما، لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النّفس. سئل كعب عن تسبيح الملائكة: أما لهم شغل عن التسبيح، أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: يا بان أخي، هل يشغلك شيء عن النّفس؟ إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم «١».
وهذا دليل على استغناء الله تعالى عن طاعة الكفار لأنه هو المالك لجميع