لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الْجِنِّ: ٢٣] وَلِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: ١٤] فَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، فَأَجَابَ هَارُونُ عَلَيْهِ السلام وقال: ابْنَ أُمَ
قِيلَ: إِنَّمَا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ فيتركه، وقيل: كان أخاه لأمه: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ٤٨] وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] وَالَّذِي فِيهِ أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِهِ بَلْ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ أَخَذَ ذُؤَابَتَيْهِ بِيَمِينِهِ ولحيته بيساره ثم قال: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لا تتبعن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ أَمْتَثِلْ قَوْلَكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقُولَ: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
فَهَلْ يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلِ.
وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ فِي الْقَوْمِ فَلَمَّا قَالَ مُوسَى: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَتَّبِعَنِ) قَالَ لِأَنَّكَ إِنَّمَا أَمَرْتَنِي بِاتِّبَاعِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْفَسَادُ فَلَوْ جِئْتُكَ مَعَ حُصُولِ الْفَسَادِ مَا كُنْتُ مُرَاقِبًا لِقَوْلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ: الْهِدَايَةُ أَنْفَعُ مِنَ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا أَجَانِبَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَا رَأَوْا إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فَآمَنُوا وَتَحَمَّلُوا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا قَوْمُهُ فَإِنَّهُمْ رَأَوُا انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَالْتَقَمَ كُلَّ مَا جَمَعَهُ السَّحَرَةُ ثُمَّ عَادَ عَصًا وَرَأَوُا اعْتِرَافَ السَّحَرَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَأَنَّهُ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ وَرَأَوُا الْآيَاتِ التِّسْعَ مُدَّةً مَدِيدَةً ثُمَّ رَأَوُا انْفِرَاقَ الْبَحْرِ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْجَاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا شَاهَدُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ وَرَأَوْا قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ قَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، وَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ عِجْلٍ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِالدَّلَائِلِ بَلْ بِالْهِدَايَةِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يَا ابْنَ أُمِّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْإِضَافَةِ وَدَلَّتْ كَسْرَةُ الْمِيمِ عَلَى الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وتقديره يا ابن أماه واللَّه أعلم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٥ الى ٩٨]
قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
[في قوله تعالى قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ] اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُخَاطَبَةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَرَفَ الْعُذْرَ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا قَطَعَ مُوسَى الْكَلَامَ مَعَ هَارُونَ أَخَذَ فِي التَّكَلُّمِ مَعَ السَّامِرِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا ثُمَّ حَضَرَ السَّامِرِيُّ مِنْ بَعْدُ أَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ مُوسَى لِيُخَاطِبَهُ، فَقَالَ موسى عليه السلام: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ وَالْخَطْبُ مَصْدَرٌ خَطَبَ الْأَمْرَ إِذَا طَلَبَهُ، فَإِذَا قِيلَ لِمَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مَا
خَطْبُكَ؟ مَعْنَاهُ مَا طَلَبُكَ لَهُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمُ صُنْعِهِ ثُمَّ ذَكَرَ السَّامِرِيُّ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:
بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بِالْكَسْرِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ فَوْقُ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ أَيْ بِمَا لَمْ يَبْصُرْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْإِبْصَارِ قَوْلَانِ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَلِمْتُ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجُلٌ بَصِيرٌ أَيْ عَالِمٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَقْرِيرِهِ: أَبْصَرْتُهُ بِمَعْنَى رَأَيْتُهُ وَبَصُرْتُ بِهِ بِمَعْنَى صِرْتُ بِهِ بَصِيرًا عَالِمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْهُ فَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِهِ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُهُ وَأَرَادَ أَنَّهُ رَأَى دَابَّةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَ مِنْ مَوْضِعِ حَافِرِ دَابَّتِهِ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ قُبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ وَهِيَ اسْمٌ لِلْمَقْبُوضِ كَالْغُرْفَةِ وَالضُّفَّةِ وَأَمَّا الْقَبْضَةُ فَالْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْمَقْبُوضِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ وَقُرِئَ أَيْضًا فَقَبَصْتُ قَبْصَةً بِالضَّادِ وَالصَّادِ فَالضَّادُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ وَالصَّادُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ وَنَظِيرِهُمَا الْخَضْمُ وَالْقَضْمُ الْخَاءُ بِجَمِيعِ الْفَمِ وَالْقَافُ بِمُقَدَّمِهِ. قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَرَادَ بِأَثَرِهِ التُّرَابَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ مَوْضِعِ حَافِرِ دَابَّتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَتَى رَآهُ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّمَا رَآهُ يَوْمَ فُلِقَ الْبَحْرُ. وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَ لِيَذْهَبَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الطُّورِ أَبْصَرَهُ السَّامِرِيُّ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ السَّامِرِيَّ كَيْفَ اخْتَصَّ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّمَا عَرَفَهُ/ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي صِغَرِهِ وَحَفِظَهُ مِنَ الْقَتْلِ حِينَ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ أَوْلَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلِدُ وَتَطْرَحُ وَلَدَهَا حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ آلُ فِرْعَوْنَ فَتَأْخُذُ الْمَلَائِكَةُ الْوِلْدَانَ فَيُرَبُّونَهُمْ حَتَّى يَتَرَعْرَعُوا وَيَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ فَكَانَ السَّامِرِيُّ مِمَّنْ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ كَفَّ نَفْسِهِ فِي فِيهِ وَارْتَضَعَ مِنْهُ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ حَتَّى عَرَفَهُ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بِمَعْنَى رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْهُ وَمَنْ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ بِالْعِلْمِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلِمْتُ أَنَّ تُرَابَ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَهَهُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِأَثَرِهِ سُنَّتَهُ وَرَسْمَهُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: فُلَانٌ يَقْفُو أَثَرَ فُلَانٍ وَيَقْبِضُ أَثَرَهُ إِذَا كَانَ يَمْتَثِلُ رَسْمَهُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ بِاللَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى إِضْلَالِ الْقَوْمِ فِي بَابِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، أَيْ عَرَفْتُ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحَقٍّ وَقَدْ كُنْتُ قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَيْ شَيْئًا مِنْ سُنَّتِكَ وَدِينِكَ فَقَذَفْتُهُ أَيْ طَرَحْتُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِرَئِيسِهِ وَهُوَ مُوَاجِهٌ لَهُ مَا يَقُولُ الْأَمِيرُ فِي كَذَا وَبِمَاذَا يَأْمُرُ الْأَمِيرُ، وَأَمَّا دُعَاؤُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا مَعَ جَحْدِهِ وَكُفْرِهِ فَعَلَى مِثْلِ مذهب من حكى اللَّه عنه قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: ٦] وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْإِنْزَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ لَيْسَ
فِيهِ إِلَّا مُخَالَفَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ بَاسِمِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَجْرِ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرٌ حَتَّى تُجْعَلَ لَامُ التَّعْرِيفِ إِشَارَةً إِلَيْهِ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الرَّسُولِ لِإِرَادَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ وَهُوَ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَسُّفِ فِي بَيَانِ أَنَّ السَّامِرِيَّ كَيْفَ اخْتَصَّ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ النَّاسِ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْرِفَتِهِ ثُمَّ كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ لِتُرَابِ حَافِرِ فَرَسِهِ هَذَا الْأَثَرَ وَالَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي رَبَّاهُ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ السَّامِرِيَّ إِنْ عَرَفَ جِبْرِيلَ حَالَ كَمَالِ عَقْلِهِ عَرَفَ قَطْعًا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ صَادِقٌ فَكَيْفَ يُحَاوِلُ الْإِضْلَالَ وَإِنْ كَانَ مَا عَرَفَهُ حَالَ الْبُلُوغِ فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِكَوْنِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَبِّيًا لَهُ فِي الطُّفُولِيَّةِ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْكَفَرَةِ عَلَى تُرَابٍ هَذَا شَأْنُهُ لَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ يُشْبِهُ ذَلِكَ فَلِأَجْلِهِ أَتَى بِالْمُعْجِزَاتِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى سُؤَالِ مَنْ يَطْعَنُ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَيَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي لَهَا خَاصِّيَّةُ أَنْ تُفِيدَ حُصُولَ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، أَتَوْا بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بَابُ الْمُعْجِزَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَالْمَعْنَى فَعَلْتُ مَا دَعَتْنِي إِلَيْهِ نَفْسِي وَسَوَّلَتْ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّؤَالِ فَالْمَعْنَى لَمْ/ يَدْعُنِي إِلَى مَا فَعَلْتُهُ أَحَدٌ غَيْرِي بَلِ اتَّبَعْتُ هَوَايَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ السَّامِرِيِّ أَجَابَهُ بِأَنْ بَيَّنَ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَيَّنَ حَالَ إِلَهِهِ أَمَّا حَالُهُ فِي الدُّنْيَا فَقَوْلُهُ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ: أَنِّي لَا أَمَسُّ وَلَا أُمَسُّ قالوا: وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّهُ صَاحَ خَوْفًا مِنَ الْحُمَّى وَقَالَ لَا مِسَاسَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا مِساسَ الْمَنْعُ مِنْ أَنْ يُخَالِطَ أَحَدًا أَوْ يُخَالِطَهُ أَحَدٌ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْرَجَهُ مِنْ مَحَلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ فَخَرَجَ طَرِيدًا إِلَى الْبَرَارِي، اعْتَرَضَ الْوَاحِدِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِذَا صَارَ مَهْجُورًا فَلَا يَقُولُ هُوَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَقِيَ طَرِيدًا فَرِيدًا فَإِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا مِسَاسَ أَيْ لَا يَمَاسُّنِي أَحَدٌ وَلَا أَمَاسُّ أَحَدًا، وَالْمَعْنَى إِنِّي أَجْعَلُكَ يَا سَامِرِيُّ فِي الْمَطْرُودِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ أَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ غَيْرَكَ عَنْ حَالِكَ لَمْ تَقُلْ إِلَّا أَنَّهُ لَا مِسَاسَ وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ وَأَقْرَبُ إِلَى نَظْمِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النِّسَاءِ فَيَكُونُ مِنْ تَعْذِيبِ اللَّه إِيَّاهُ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ يُؤْنِسُهُ فَيُخْلِيَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ زِينَتِي الدُّنْيَا اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا بِقَوْلِهِ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: ٤٦] وقرى لا مساس بوزن فجاز وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَسِّ، وَأَمَّا شَرْحُ حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَالْمَوْعِدُ بِمَعْنَى الْوَعْدِ أَيْ هَذِهِ عُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَكَ الْوَعْدُ بِالْمَصِيرِ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فَأَنْتَ مِمَّنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: لَنْ تُخْلَفَهُ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تُخْلَفَ ذَلِكَ الْوَعْدَ أَيْ سَيَأْتِيكَ بِهِ اللَّه وَلَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْكَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ تَجِيءُ إِلَيْهِ وَلَنْ تَغِيبَ عَنْهُ وَلَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ وَفَتْحُ اللَّامِ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: مَوْعِدًا حَقًّا لَا خُلْفَ فِيهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَنْ نُخْلَفَهُ بِالنُّونِ فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَى قَوْلَ اللَّه تَعَالَى بِلَفْظِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ:
لِأَهَبَ لَكِ
[مَرْيَمَ: ١٩] وَأَمَّا شَرْحُ حَالِ إِلَهِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً قَالَ الْمُفَضَّلُ فِي ظَلْتَ: إِنَّهُ يُقْرَأُ بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِهَا وَكَذَلِكَ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٥] وَأَصْلُهُ ظَلِلْتَ فَحُذِفَتِ اللَّامُ الْأُولَى وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتِ اللَّامُ الثَّانِيَةُ سَاكِنَةً تَسْتَحِبُّ الْعَرَبُ طَرْحَ الْأُولَى وَمَنْ كَسَرَ الظَّاءَ