
والسحرة وترتب عليهم عقوبات زاجرة. وحيث يكون في هذا تساوق مع ما ورد في السلسلة وفي القرآن من ذلك.
ولقد احتوت الآيات نقاطا كثيرة فيها العبرة والعظة والتطابق من المبادئ والتقريرات والتدعيمات الواردة في سور أخرى، منها ما مر تفسيره ومما هو هدف جوهري في الآيات مثل المحاورة الأولى التي جرت بين موسى عليه السلام وفرعون في صور عظمة الله وقدرته الشاملة وعلمه المحيط ونعمه على خلقه، وإيداعه في كل شيء خلقه ما هو في حاجة إليه، وهدايته إلى استعمالها والانتفاع بها. ومثل الحملة على السحر والسحرة وتقرير كون ذلك كذبا وافتراء على الله، وأن الذين يتعاطون السحر لا يمكن أن يصيبوا فلاحا ونجاحا. ومثل انتصار رسول الله على السحرة باية الله. ومثل رؤيتهم الحق والهدى في جانب رسول الله، وإيمانهم وسجودهم لله، وثباتهم على ذلك رغم تهديد فرعون إياهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب. ورجاء غفران الله ونيل رضوانه ونعيمه الأخروي الذي هو الأفضل، لأن الذي يأتي ربّه مجرما له نار جهنم لا يموت فيستريح من العذاب ولا يخرج منها فيكون له حياة أخرى، ومن يأته مؤمنا صالح العمل له الدرجات العلى وجنات النعيم. ومثل ما كان في النهاية من عناية الله تعالى بموسى عليه السلام وقومه لإخلاصهم وإيمانهم، وإنقاذهم من طغيان فرعون وغرق فرعون الذي لحق بهم مع جنوده نتيجة لمعجزة الله التي أظهرها على يد رسوله بضربه البحر بعصاه وسير موسى وقومه على الأرض اليابسة فيه وانطباقه بعد ذلك على فرعون وجنوده لأنه قاد قومه إلى الضلال دون الهدى.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٠ الى ٩٨]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤)
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)

(١) هوى: سقط وهلك.
(٢) ما أعجلك عن قومك: ما لذي جعلك تترك قومك وتتعجل بالمجيء.
(٣) على أثري: آتون من ورائي.
(٤) فتنّا قومك: امتحناهم.
(٥) أسفا: حزينا أو ساخطا.
(٦) لم ترقب قولي: لم تطع قولي أو لم تحفظه أو لم تنتظر إشارة مني.
(٧) بصرت بما لم يبصروا به: علمت ما لم يعلموه أو رأيت ما لم يروه.
(٨) سوّلت لي نفسي: زينت لي نفسي.
(٩) لننسفنه: لننثرنه أو لنذرينه.

تعليق على الآيات المتضمنة حكاية بعض ما كان من أمر بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر
الآيات هي الحلقة الأخيرة من السلسلة. وقد احتوت حكاية موجز من سيرة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وأثناء مكوثهم في برية سيناء. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
ومنها ما ذكر في سلسلة سورة الأعراف التي سبق تفسيرها، ومنها ما لم يذكر قبل. وما جاء فيها متطابق إجمالا مع ما جاء بإسهاب في الإصحاحات (١٦ و ١٧ و ٣٠) من سفر الخروج مع بعض فروق في المحاورات، باستثناء السامري وصنعه العجل. حيث ذكر الإصحاح (٣٠) من السفر أن هارون هو الذي صنعه نتيجة تمرد وإلحاح بني إسرائيل. ونعتقد أن اسم السامري كان متداولا بين اليهود وواردا في أسفار لم تصل إلينا كصانع للعجل. والمحاورة التي جرت بين موسى وهارون وحكتها الآيات وما حكته الآيات كذلك من تأنيب هارون لبني إسرائيل على اتخاذهم العجل مؤيد لذلك من وجهة النظر القرآنية والإسلامية. فهارون من أنبياء الله ولا يصح أن يكون صانعا للعجل.
ونعتقد أيضا أن ما جاء في القرآن غير ذلك مباينا لما جاء في السفر أسلوبا وعبارة كان هو أيضا متداولا في اليهود وواردا في الأسفار الضائعة. و (سامري) صيغة عربية نسبة إلى سامر الذي هو على الأرجح معرف من كلمة شامر التي كانت تطلق على منطقة في وسط فلسطين قرب نابلس اليوم. وقد ذكرت الكلمة في أسفار عديدة من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم التي تؤرخ حقبة تاريخ بني إسرائيل قبل المسيح «١». ولقد كان في زمن النبي ﷺ طائفة موسوية تسكن هذه المنطقة

استمرارا لأمد بعيد قبله بل وقبل المسيح منسوبة إليها. ولا يزال بقية منها موجودة إلى اليوم في نابلس. وكل هذا كان معروفا متداولا بين اليهود بطبيعة الحال.
ولقد أورد الطبري وغيره روايات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي الأول في صدد توضيح ما جاء في الآيات. منها ما هو متطابق مع الأسفار المتداولة اليوم، ومنها ما لا يتطابق، وكلها تدور في نطاق ما جاء في القرآن سواء أكان مباينا لما في الأسفار المتداولة أم لم يكن فيها بالمرة. حيث يدعم هذا ما قلناه. إن ما جاء في القرآن كان هو المتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من مصدر إلّا اليهود وما كان في أيديهم من أسفار وقراطيس لم تصل إلينا. ومن جملة ذلك أن السامري كان من عظماء بني إسرائيل وأنه من قبيلة اسمها سامرة.
وأن الحلي التي صنع السامري منها العجل قد أخذها بنو إسرائيل من المصريين حين خروجهم وهو ما عبرت عنه الآية [٨٧]. وفي الإصحاحات (٣ و ١١) من سفر الخروج خبر استعارة بني إسرائيل من المصريين جيرانهم متاعا وحليا بنية سلبها. ومما جاء في روايات المفسرين أن السامري رأى جبريل وهو قادم إلى موسى فقبض قبضة من تراب الأرض التي داستها فرسه. وأنه ألقى هذه القبضة مع الحلي في النار وقال لها كوني عجلا جسدا له خوار وهو ما عبرت عنه الآيتان [٨٨- ٨٩].
ولقد كان العجل من المعبودات المهمة في مصر. فالظاهر أن بني إسرائيل اندمجوا في ذلك إبّان إقامتهم في مصر. فلما ذهب موسى إلى مناجاة ربه وتأخر عنهم اضطربوا وثاروا وطالبوا بالعودة ثم ذكروا المعبود المذكور فصنعوا تمثالا له من الحلي التي كانوا سلبوها من المصريين وأخذوا يتعبدون له. ولقد كان هذا ديدن بني إسرائيل في إقامتهم في فلسطين فيما بعد حيث اعتنقوا عقائد أهلها القدماء وانحرفوا عن عبادة الله وحده. وكل هذا ما سجلته عليهم أسفارهم.
ولقد كان يعقوب جد بني إسرائيل وأولاده الذين هم أجداد أسباط بني إسرائيل أقاموا ردحا في منطقة نابلس التي كان اسمها سابقا شكيم على ما ذكره

الإصحاح (٣٣) من سفر التكوين والإصحاحات التي بعده.
وقد قلنا إن هذه المنطقة هي المنطقة التي كانت تسمى سامر أو شامر. ولا ندري هل يمكن أن يكون بين هذا وبين ما رواه المفسرون من أن السامري كان من عظماء اليهود صلة ما بحيث يفرض أن بعض أبناء يعقوب أو ذريتهم نعتوا في مصر باسم السامريين نسبة إلى المنطقة التي سكنوا فيها في فلسطين قبل نزوحهم إلى مصر فظل هذا النعت متصلا إلى زمن موسى عليه السلام.
وتأويل كلمة فَنَسِيَ موضوع اختلاف على ما رواه المفسرون عن أهل التأويل حيث قال بعضهم إنها من كلام السامري لبني إسرائيل بقصد القول إن الإله العجل الذي صنعه لهم هو إله موسى أيضا الذي نسيه. وحيث قال بعضهم إنها تعقيب رباني بقصد القول إن السامري في قوله هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى يكون قد نسي إيمانه بالله وحده. وقد يكون هذا هو الأوجه لأن الآية التي أعقبت الكلمة احتوت تعقيبا قرآنيا مباشرا من الله فيه تنديد بهم لأنهم اتخذوا العجل دون أن يدركوا أنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم نفعا ولا ضرّا.
ومما رووه عن أهل التأويل في توضيح كلمة لا مِساسَ أن موسى عليه السلام أمر السامري بعدم مخالطته للناس وأمر الناس بعدم مخالطة السامري فصار هائما لا يمسّ ولا يمسّ.
ونكتفي بما تقدم مما يرويه المفسرون لتوضيح مدى الآيات لغويا وموضوعا. ولقد شرحناه ما ورد من أوصاف المنّ والسلوى في سورة الأعراف فلم نر ضرورة للتكرار.
ولقد احتوت الحلقة بدورها نقاطا عديدة فيها العبرة والعظة والتذكير والتطابق مع تقريرات القرآن المتكررة، وكل هذا من أهدافها الجوهرية. من ذلك تذكير بني إسرائيل بما كان من عناية الله بهم وإنقاذهم من عدوهم وإرسال المنّ والسلوى طعاما لهم وإباحة الطيبات لهم جزاء ما كان من إيمانهم واتباعهم موسى عليه السلام وتحذيرهم من تجاوز حدود الله حتى لا يحلّ عليهم غضبه فيهلكون.