آيات من القرآن الكريم

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ
ﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ

لا يدري أتضع ليلا أم نهارا، فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن بالنسبة له، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، فأخذ امرأته الطلق وولدت، فجمع حطبا وصار يقدح زنده (وتسميه العامة زنادا ويقال أورى إذا قدح، وصلد إذا لم يقدح) فلم يور فنظر إلى جهة الطور، فإذا هو بنور ظنه نارا، وما أحسن هذا الضلال إذ كان فيه الهدى، وكان ابن الفارض رحمه الله ألمع إلى هذا بقوله:

ما بين ظال المنحنى وظلاله ضل الميتم واهتدى بضلاله
وما أحسن هذا الجناس والمقابلة بين ظال وضل وظلاله وضلاله
«فَلَمَّا أَتاها» أي النار التي رآها عن بعد ليقتبس منها فنأت عنه، فنأى عنها، فدنت إليه، فوقف متحيرا، إن أقدم إليها تأخرت وإن تأخر عنها دنت منه، فعند ذلك «نُودِيَ» من قبل حضرة القدس «يا مُوسى ١١ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» وهذا هو الإرهاص بعينه، راجع معناه في بحث الوحي في المقدمة، وذلك لأنه لم يتنبأ بعد حتى تظهر له الخوارق على طريق التحدي الذي هو من شأن النبوّة، فوقف ولم يعلم ما يفعل، فأمره ربه بقوله «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» لتباشر رجلاك الأرض المقدسة فتصيبها بركة الوادي الذي هو فيه إذ انتشر فيه نور الإله، وإجلالا لنور تلك الحضرة المقدسة، إذ لا يليق أن يخوض ذلك النور وهو متنعّل. وما قيل إنها كانتا من جلد حمار ميت فغير ثابت، وما استدل به على هذا في الحديث الذي أخرجه الترمذي بسنده عن النبي ﷺ قال: كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبّة صوف وكمة صوف (أي قلنصوة صغيرة) وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار. ولم يذكر فيه أنه ميت والرواية التي فيها لفظة ميت غريبة لم تثبت، وأنه عليه السلام خلعهما حالا وطرحهما وراء الوادي، يدل على هذا قوله عز قوله «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» ١٢ فإن هذه الآية جاءت تعليلا لذلك الأمر، إذ لا ينبغي أن يداس هذا الوادي المقدس بنور الإله من قبل أحد ما وهو متنعل «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» من قومك ومن الناس أجمعين، لأن أشرفك بنبوتي ورسالتي وأرسلك لهداية خلقي «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» ١٣

صفحة رقم 190

إليك فيما يتعلق بأمرها، قال وهب بن منبه: قال موسى عليه السلام بعد أن وطنه ربه بما تقدم من النداء والأمر والاصطفاء رب إني اسمع كلامك ولا أراك ولا أعلم مكانك، فأين أنت رب؟ فقال يا موسى أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» وحدي فأنا المستحق للعبادة وأرفض ما سواي، فإنهم خلقي وصنع خلقي.
مطلب جواب إمام الحرمين عن المكان ورفع الأيدي إلى السماء:
يروى أن إمام الحرمين- رفع الله درجته في الدارين- نزل ضيفا عند بعض الأكابر، فاجتمع عنده العلماء فقام واحد من المجلس وقال له: ما الدليل على تنزيه الله تعالى عن المكان وقد قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ؟ فقال: الدليل عليه قول يونس عليه السلام في بطن الحوت فتعجب الحاضرون، والتمس صاحب البيت بيان ذلك، فقال الإمام إن في الباب فقيرا عليه ألف درهم أدّها عنه وأنا أبيّن لك ذلك، فقبل، فقال إن رسول الله ﷺ لما عرج به إلى ما شاء الله من العلى قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ولما ابتلى يونس بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الآية ٨٧ من سورة الأنبياء في ج ٢، فكل منهما خاطب الإله بقوله أنت خطاب الحضور، فلو كان هو في مكان لما صح ذلك، فدل هذا على أنه جلت قدرته ليس في مكان بل هو في كل مكان بآثاره وصفاته وأنواره، لا بذاته، كما أن الشمس في كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها، ولو كان في كل مكان بالمعنى الذي أراده بعض الجهلة لقيل أين هو، كان قبل خلق هذه العوالم، ألم يكن له وجود متحقق؟ فان قالوا لا، فقد كفروا، وإن قالوا بالحلول والانتقال فكذلك، لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور الكمالات فيه، لكن لا من حيث أنه حادث مطلقا، بل من حيث أن وجوده مستفاض منه، ولعلك تقول أيها المعترض لماذا ترفع له الأيدي نحو السماء إذا لم يكن فيها، فاعلم أيها

صفحة رقم 191

العاقل هداك الله لتوفيقه وأرشدك لسلوك طريقه، أن معنى رفع الأيدي إلى السماء هو طلب الاستعطاء من الخزانة التي نوه بها في قوله عز قوله (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية ٢٣ من الذاريات في ج ٢، وقوله جل قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الآية ٢١ من سورة الحجر في ج ٢ أيضا، وإن الذي استوى على العرش هو مظهر الصفة الرحمانية، ومن أثبت له مكانا بالمعنى المعلوم فهو من المجسمة، والله منزه عن الجسم اه بتصرف عن روح البيان. هذا ولما سمع موسى عليه السلام هذا النداء المتكرر والأمر بالاستماع عقبه الأمر بالعبادة، علم بإلهام الله إياه أن ذلك لا يكون ولا ينبغي أن يكون إلا من الله، وأيقن به، وتأهب لمقام الهيبة والجلال لاستماع الأمر العظيم الذي أمره به، واعترف له بالعبودية وأصغى لما يكون بعدها من الأمر، قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» ١٤ خاصة لأني ذكرتها في الكتب القديمة وأمرت اخوانك الأنبياء بإقامتها فأقمها مثلهم.
هذا، ومن قال إن المراد بهذا الأمر، إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها، أي اقضها، لا وجه له، لأن الصلاة لم تفرض عليه بعد حتى يعلمه ما يتعلق بها.
مطلب فضل الصلاة الفائتة:
ان ما احتج به هذا القائل في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس قال قال رسول الله ﷺ من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك.
وتلا قتادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفي رواية عن أبي هريرة أنه ﷺ نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال: من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها. وفي رواية إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل قال (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لا يصح دليلا على ما نحن فيه لما قدمناه، وإنما يصح دليلا لنا إذا قدر مضافا محذوفا أي لذكر صلاتي، وقد ظن هذا القائل أن الحديث لو لم يحمل على هذا لم يصح التعليل به، وهو من بعض الظن، لأن التعليل صحيح من غير أن يحمل الحديث على الآية، وأنه عليه السلام أراد بهذا الحديث أنه إذا

صفحة رقم 192

ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له، وهو ذكر الله تعالى المأمور به في هذه الآية، فيحمله على إقامتها لاشتمالها على الذكر، وقد صادف هذا البحث حادثة غريبة عن التفسير المبارك مناسبة للمقام فأحببت ذكرها، وهي اني كنت في المحكمة في الساعة الرابعة من يوم الخميس ١ جمادى الآخرة سنة ١٣٥٧ واشتغلت كعادتي في هذا التفسير وأجهدت نفسي في مطالعة التفاسير في آية الاستواء المارّة ولم أحس بأني لم أصل الظهر إلا عند كتابة هذه الأحاديث، وكان العصر يؤذن فتفاءلت بها بأن الله تعالى لم يؤاخذني وتسليت بما وقع لحضرة الرسول يوم الخندق ويوم الأحزاب، وإلى سليمان في حادثة الخيل وقد ألمعنا إليها في الآية ٣٣ من سورة ص المارة، لأنه لم يفتني والحمد لله وقت قط، فمقت وصليت الظهر ثم العصر واستغفرت الله تعالى من هذه الغفوة، ثم عدت لما أنا فيه قال تعالى «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» لا محالة لأن خراب الكون متوقف عليها، وجاء بذكر الساعة هنا لأن قوم موسى الذي أمره الله في هذه الآية بدعوتهم للايمان ينكرونها، لأن فرعون وقومه القبط يعبدون الأوثان، ولأن الاعتقاد بوجودها من أصول الدين ومتعلق آمال الموحدين، جعلها الله في الدرجة الثالثة إذ ذكرها بعد توحيده وإقامة الصلاة لذكره، وأكدها بحرف التوكيد، وكأن موسى عليه السلام تشوف ليعلم وقت مجيء الساعة لأن من أرسله إليهم ينكرونها أسوة بمن تقدم من الكفرة أمثالهم فقال تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» حتى عن نفسي فكيف أظهرها لك أو أظهرك عليها وكيف يعلمها مخلوق وهي من خصائص الخالق، وهذا جري على عادة العرب المنزل عليهم هذا القرآن بلغتهم، إن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان السر قال كدت أخفيه عن نفسي، ويؤيد هذا التفسير الذي اخترته على غيره قوله ﷺ في حديث الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها (عن نفسه) حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه- مبالغة في الإخفاء- وبه قال ابن عباس وجعفر الصادق، أما ما جاء في مصحف أبيّ ومصحف ابن خالويه وعبد الله بزيادة (فكيف أظهرها) فليس من القرآن وإنما هو من تفسيرهم لهذه الآية إذ كانوا يكتبون بهامش مصاحفهم أو بين

صفحة رقم 193

سطوره ما يقفون عليه من بعض الكلمات التي يتلقونها من حضرة الرسول أو مما اجتهادهم لمعناها، ومن شواهد قوله:

أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
وقبل إن خبر كاد محذوف تقديره آتي بها على حد قول صائبي الرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل ثم استأنف وقال وليتني وليس بشيء، وما جرينا عليه أو هذا، وقد ذكرت غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه على القرآن الذي بأيدينا لا عبرة بها، ولا تجوز قراءتها لأن هذا القرآن هو بعيد أنزله الله لا زيادة ولا نقص فيه. واعلم يقينا أن كل ما نقل عن بعض العلم القراء زيادة كلمة أو حرف على ما في القرآن هي شروح وتفاسير كتبها القائلون بها على هوامش مصحفهم ليس إلا، إذ لا يجوز أن يقال في بعض المصاحف زيادة أو نقص على بعضها قطعا، والقول به حرام راجع تفسير الآية ١٩ من سورة الحجر في ج ٢. وبحث القراءات في مطلب الناسخ والمنسوخ في المقدمة المارة. قال تعالى «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» ١٥ تعمل في هذه الدنيا إن خيرا فخير وإن فشر «فَلا يَصُدَّنَّكَ» يا رسول «عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها» من قوم فرعون وغيرهم الجاحدين وجودها المتوغلين في الغفلة المعنيين بقوله «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بما تسول له نفسه من النزغات الشيطانية واللذات البهيمية والشهوات الخسيسة فتصده عن الإيمان بها «فَتَرْدى» توقع نفسك في الردى والهلاك، لأن إغفالها إغفال تحصيل ما ينجي من هولها. ثم أراد جل شأنه أن يريه آية على رسالته فقال «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» ١٧ وهذا سؤال لتقرير الحكم منه أن يوقفه أولا على ماهية ما بيده وينبهه على ما يريد بها وما سيظهره له بها من العجائب، حتى إذا صيّرها لا يهوله أمرها، ويوطن نفسه عليها، وليعلم أنها معجزة له وبرهان على نبي «قالَ هِيَ عَصايَ» أضافها لنفسه لأنها بيده.

صفحة رقم 194
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية