آيات من القرآن الكريم

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ
ﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ

وهو سبحانه الإله الوحيد في هذا الكون، لا إله غيره، ولا رب سواه، له الأسماء الحسنى التسع والتسعون، والصفات العليا، والأفعال الحميدة الحكيمة السديدة.
وقد وحد الله نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فكبر ذلك عليهم، فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن، قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر، وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وأنزل:
قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء ١٧/ ١١٠] وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
قصة موسى عليه السلام
- ١- تكليم ربه إياه (أو مناجاة موسى) وابتداء الوحي إليه في الوادي المقدس
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)

صفحة رقم 185

الإعراب:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِنِّي بالكسر على الابتداء لأن النداء في معنى القول، وإن: تكسر بعد القول لأنها في تقدير الابتداء. وتقرأ بالفتح أني لوقوع نُودِيَ عليها، أي نودي يا موسى بأني، فحذف الياء تخفيفا. وأَنَا تأكيد لياء المتكلم.
طُوىً من قرأ بتنوين، جعله منصرفا اسما للمكان غير معدول، كجعل وصرد، ومن لم ينون جعله ممنوعا من الصرف إما للتأنيث والتعريف، أو للتعريف والعدل عن طاو كعدول عمر عن عامر. وإعرابه: بدل من الوادي في كلا الوجهين.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل مما يوحى.
لِذِكْرِي إما مضاف إلى المفعول، أي لتذكرني، وإما مضاف إلى الفاعل، أي لأذكرك.
أَكادُ أُخْفِيها أُخْفِيها إما أن الهمزة فيه همزة السلب، أي أريد إخفاءها، مثل:
أشكيت الرجل، إذا أزلت شكايته، وإما أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف أظهرها لكم.
ولام لِتُجْزى متعلقة ب أُخْفِيها.
فَتَرْدى إما منصوب جوابا للنهي بالفاء، بتقدير (أن) مثل: لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ.. [طه ٢٠/ ٨١] وإما مرفوع على تقدير: فإذا أنت تردى، مثل يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ [النساء ٤/ ٧٣].
البلاغة:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى؟ للتشويق والحث على الإصغاء، وهو استفهام تقرير.
لِتَشْقى يَخْشى أَخْفى تَسْعى سجع حسن.
المفردات اللغوية:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ تشويق لسماع قصته بقصد التأسي به، والحديث: ما يبلغ الإنسان من الكلام، سواء بالسمع أو بالوحي. وهو استفهام تقرير.
إِذْ رَأى ظرف للحديث لأنه حدث، أو مفعول لفعل مقدر وهو اذكر. لِأَهْلِهِ لامرأته. امْكُثُوا هنا، والمكث: الإقامة، قال ذلك في أثناء مسيره من مدين إلى مصر.
آنَسْتُ أبصرت. آتِيكُمْ أجيئكم. بِقَبَسٍ بشعلة من النار مقتبسة على رأس فتيلة أو عود وقال: لَعَلِّي لعدم الجزم بوفاء الوعد. هُدىً هاديا يدلني على الطريق، وكان أخطأها لظلمة الليل.

صفحة رقم 186

فَلَمَّا أَتاها أتى النار، وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي للتواضع والأدب. الْمُقَدَّسِ المطهر أو المبارك، وهو تعليل للأمر باحترام البقعة.
اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة من قومك. لِما يُوحى إليك مني، أو للوحي، واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين. أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي دال على أن الأمر مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم، والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لتكون ذاكرا لي، خصها بالذكر، لما فيها من تذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وقيل:
لذكر صلاتي، لما
روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها»، إن الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة. أَكادُ أُخْفِيها أبالغ في إخفائها ولا أظهرها بأن أقول: إنها آتية، أو أريد إخفاء وقتها عن الناس، ويظهر لهم قربها بعلاماتها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي لتجزى فيها كل نفس بما تسعى من خير أو شر. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها لا يصرفنك عن الإيمان بها. هَواهُ ما تهواه نفسه في إنكارها. فَتَرْدى فتهلك إن صددت عنها.
المناسبة:
لما عظم الله تعالى حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه به من التبليغ، أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الإبلاغ من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود ١١/ ١٢٠]. وبدأ بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة، وتبليغ الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، وكان موسى أشد الناس صبرا على تحمل مكاره قومه. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة.
التفسير والبيان:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه؟ وبدئ بالاستفهام لتثبيت الخبر، وتقريره في نفس المخاطب، فذلك أسلوب مؤثر في إلقاء الكلام العربي.

صفحة رقم 187

قال المفسرون: استأذن موسى عليه السلام شعيبا في الرجوع إلى والدته، فأذن له، فخرج، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق، فقدح موسى عليه السلام النار، فلم تور المقدحة شيئا، فبينا هو يزاول ذلك، إذ نظر نارا من بعيد عن يسار الطريق، فظن أنها نار من نيران الرعاة، من جانب جبل الطور الواقع عن يمينه «١»، كما قال تعالى:
إِذْ رَأى ناراً، فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر، والصحيح كما قال الرازي أنه رأى نارا، لا تخيل نارا، ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء.
فقال لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم: أقيموا مكانكم، إني رأيت نارا من بعيد، لعلني أوافيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب، أو جذوة كما في آية أخرى، لعلكم تستدفئون (أو تصطلون) بها، مما يدل على وجود البرد، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها، كما قال تعالى: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص ٢٨/ ٢٩]. والهدى: ما يهتدى به، وهو اسم مصدر، فكأنه قال: أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة.
ومعنى الاستعلاء على النار: أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ: يا مُوسى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً أي فلما أتى النار التي آنسها، واقترب منها نودي من قبل الرب تبارك وتعالى، كما قال: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ

(١) تفسير الرازي ٢١/ ١٥

صفحة رقم 188

الشَّجَرَةِ: أَنْ يا مُوسى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [القصص ٢٨/ ٣٠]. وقال هاهنا:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي نودي: يا موسى، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك، فاخلع حذاءك لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم، وحسن التأدب، إنك بالوادي المطهر المسمى طُوىً من أرض سيناء.
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي وأنا الله الذي اخترتك للرسالة والنبوة، فاستمع سماع قبول واستعداد ووعي لما ينزل عليك من الوحي، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف ٧/ ١٤٤] أي على جميع الناس الموجودين في زمانك.
ثم ذكر الموحى به فقال تعالى:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي إن الذي يناديك هو الله، وهو تأكيد لما سبق، وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ووحدني وقم بعبادتي من غير شريك لأن اختصاص الألوهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة، والمعنى: أنا الإله الحق الواحد، المستحق للعبادة دون سواي.
وأد الصلاة المفروضة على النحو الذي آمرك به، مستكملة الأركان والشروط لتذكرني فيها وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخص الصلاة بالذكر، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة. أو المعنى: أقم الصلاة عند تذكرك بالواجب وذكرك لي لما
رواه الإمام أحمد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي»
وفي الصحيحين عن أنس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك».
وأخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله

صفحة رقم 189

صلى الله عليه وآله وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».
واقتصر الحديث على حالتي النوم أو النسيان لأن شأن المؤمن ألا يقصر في واجبه بأداء الصلاة، فإذا تركها عمدا كان قضاؤها ألزم وأوجب إذ لا كفارة لها إلا أداؤها أو قضاؤها.
ثم أخبر عن الساعة أو مجيء يوم القيامة ومصير الخلائق بعد توحيد الله وعبادته، باعتبارها مقر الحساب على الأعمال، فقال:
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي إن الساعة قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري، فاعمل لها الخير من عبادة الله والصلاة، ولأن مجيء الساعة أمر حتم لازم لأجزي كل عامل بعمله، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها، كما قال تعالى:
إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور ٥٢/ ١٦] وقال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة ٩٩/ ٧- ٨].
والله أخفى الساعة أي القيامة، وأجل الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ونشاط، ولا يؤخر التوبة، ويترقب الموت كل لحظة. وكلمة أَكادُ أي أقارب، وهي زائدة، أي إن الساعة آتية أخفيها.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها، وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى أي فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة (القيامة) والتصديق بها، والاستعداد لها من لا يصدق بها من الكفرة، واتبع أهواءه وتصوراته المغلوطة، بالانهماك في الملذات المحرمة الفانية، فإنك إن تفعل ذلك تهلك.
والخطاب ليس مقصورا على موسى الرسول عليه السلام، وإنما بدئ به لتعليم غيره، فهو شامل جميع الناس البالغين العقلاء.

صفحة رقم 190

فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- ضرورة تعلم قصص الأنبياء والاطلاع عليها للعبرة والعظة، وقد حث القرآن على ذلك في مطلع الإخبار عن قصة موسى عليه السلام، بصيغة الاستفهام الذي هو استفهام إثبات وإيجاب. ولفظ الاستفهام وَهَلْ أَتاكَ وإن كان لا يجوز على الله تعالى، لأنه ليس بحاجة إليه، لكن المقصود به كما تقدم تقرير الجواب في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك، كما يقول المرء لصاحبه على سبيل التشويق ولفت النظر والانتباه: هل بلغك خبر كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر.
٢- على الزوج واجب الإنفاق على الأهل (المرأة) من غذاء وكساء ومسكن ووسائل تدفئة وقت البرد، لذا بادر موسى عليه السلام إلى الذهاب في الليلة المظلمة الشاتية لإحضار شعلة نار أو جذوة (جمر من النار) للدفء، وللحاجة الشديدة إليه، وبخاصة حالة النفساء.
٣- كان ذهاب موسى عليه السلام من أجل استحضار النار سببا في تكليم الله له، وابتداء الوحي عليه، وإيتائه النبوة والرسالة.
٤- اقتضى أدب الخطاب الإلهي تكليفه بخلع نعليه، ففعل فورا. جاء في الخبر: أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
لذا وجب خلع النعال في أثناء الصلاة أو عند دخول المسجد إذا كان فيها نجاسة أو قذر، فإن كانت طاهرة جازت الصلاة فيها، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة في النعلين أفضل، وهو معنى قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف ٧/ ٣١].

صفحة رقم 191

وكيفية تطهير النعلين من النجاسة على التفصيل الآتي: إن تحقق فيهما نجاسة مجمعا على تنجيسها كالدم والعذرة (الغائط) من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة، فيطهرها المسح بالتراب عند الأوزاعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة: يزيل النجاسة اليابسة الحك والفرك، ولا يزيل الرطبة إلا الغسل، أما البول فلا يجزئ فيه إلا الغسل. وعند المالكية قولان، أرجحهما أن المسح يطهر، وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء.
٥- حسن الاستماع واجب مطلوب في الأمور المهمة، وأهمها الوحي المنزل من عند الله. وقد مدح الله من يحسن استماع كلام الله، فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر ٣٩/ ١٨] وذم من يعرض عن الاستماع فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ الآية [الإسراء ١٧/ ٤٧] فمدح المنصت لاستماع كلام الله مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠٤] وقال هاهنا: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.
قال وهب بن منبه: من أدب الاستماع: سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه، فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله، فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.
٦- اشتمل أول الوحي على موسى على أصلين في العقيدة وهما الإقرار بتوحيد الله، والإيمان بالساعة (القيامة) وعلى أهم فريضة بعد الإيمان وهي الصلاة.

صفحة رقم 192

وكان إخفاء الساعة للتهويل والتخويف، وترك المماطلة والتسويف في الإقبال على التوبة والعمل الصالح، فإن الإنسان إذا جهل وقت الساعة كان منها على حذر وخوف. وهذا أيضا سبب إخفاء الله وقت الموت.
وإقامة الصلاة واجب في الوقت المخصص لها، ويجب قضاؤها كما دلت الأحاديث النبوية المتقدمة في حالتي النوم والنسيان. وأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا آثما بتأخيرها عن وقتها، فالمتعمد آثم، والناسي والنائم غير آثمين. وحجة الجمهور قوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة ٢/ ٤٣] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعده، وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير آثمين، فالعامد أولى. ثم إن النسيان هو الترك، قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة ٩/ ٦٧] ونَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر ٥٩/ ١٩] سواء كان مع ذهول أو لم يكن لأن الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى في
الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي»
وهو تعالى لا ينسى، فيكون ذكره بعد نسيان، وإنما معناه: علمت، فكذلك يكون معنى
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ذكرها»
أي علمها.
وأيضا فإن ديون الآدميين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت، لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء، فإذا شغلت الذمة بدين وجب إبراء الذمة منه، أداء أو قضاء، وديون الله أحق بالوفاء.
ثم إن ترك يوم من رمضان متعمدا بغير عذر يوجب القضاء، فكذلك الصلاة «١».

(١) تفسير القرطبي: ١١/ ١٧٨.

صفحة رقم 193

ومذهب المالكية: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها.
وهذا هو مذهب الحنفية إلا أنهم قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم.
وقال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه.
وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر، وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة، وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه.
ودليل تقديم الفائتة قبل الحاضرة:
ما روي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتته العصر يوم الخندق، حتى غربت الشمس، فصلى العصر بعد غروب الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وروى الترمذي عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
واختلف العلماء إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال:
- فذهب مالك والليث والزهري: إلى أنه يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة.
وذهب الحسن البصري والشافعي وفقهاء الحديث والمحاسبي وابن وهب من المالكية: إلى أنه يبدأ بالحاضرة.
- وقال أشهب: يتخير فيقدم أيتهما شاء.

صفحة رقم 194
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية