آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ
ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﱿ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى»
١١٧ أنت وزوجك وذريتك إذ يكون عيشك من كد يمينك وعرق جبينك، فتزرع وتحصد وتطحن وتعجن وتخبز بعد أن كنت في غنى عن هذه الأتعاب، ومن ضمن شقائك شقاء ذريتك من بعدك وزوجتك معك، لأن شقاء الرجل شقاء لأهله وسعادته سعادتهم، أسند جل شأنه الخروج الى اللعين بسبب وسوسته لهما وقبولهما منه وإلا ففي الحقيقة هو الفاعل وحده، وانما يؤاخذ الفاعل على ما نهي عنه بقصده ورغبته وبما أوتي من عقله بلزوم اجتناب القبيح وعمل المليح، كما بيّنه في الآية ١٢٢ الآتية، ثم بين فوائد بقائه في الجنة بقوله عز قوله «إِنَّ لَكَ» يا آدم مادمت في الجنة «أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى» ١١٨ بل تأكل ما تشتهي وتلبس ما تريد بلا تعب ولا مشقة «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» ١١٩ بل تشرب أنواع الأشربة اللذيذة وتستظل بظل دائم لا ترى وهج الشمس ولا حرها، يقال ضحى الرجل إذا برز في الضحى فأصابته الشمس، قال عمرو بن ربيعة في هذا:

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
يخصر أي يبرد، فهذه الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان مؤمنة لكما، فلماذا أخرجتما أنفسكما الى مباشرتها بالتعب والمشقة بسبب عدم صبركما عما نهيتما عنه! «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ» ثم بين صفة هذه الوسوسة بقوله «قالَ» إبليس يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ» التي من يأكل منها لا يموت بل يخلد في الجنة «وَمُلْكٍ لا يَبْلى» ١٢٠ ولا يفنى زيادة على التخليد فيها أبدا فراق لهما ذلك وقالا بلى فما هو؟ قال تأكلان من هذه الشجرة ولم يزل يحسّن لهما أكلها حتى أغراهما وغرهما
«فَأَكَلا مِنْها» مع كون علمهما بعداوة إبليس لهما بإخبار الله تعالى لهما نسيانا وغرورا من إبليس الذي القي الوسوسة لهما وأقسم بأنه ناصح لهما ولم يريدا بعملهما ذلك مخالفة أمر الله حقيقة، لأن الحقيقة هي طبق مراد الله أزلا ومن تأمل هذا عرف أن لا دافع لقضاء الله. فعجل الله عقوبتهما على هذه المخالفة الظاهرة لما أمرهما الله به «فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حال أكلهما بدليل العطف بالفاء

صفحة رقم 223

فأزيل عنهما لباسهما الساتر لهما فظهرت عورتهما فاستوحشا منظرهما «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» بقصد سترهما إذ استبشعا ما رأياه من عورتهما، ولم يكن لهما ما يسترانها إلا أوراق الجنة.
مطلب معصية آدم والحكم الشرعي فيها ومعنى القضاء والقدر.
«وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» على هذه الصورة «فَغَوى» ١٢١ ضل عن طريق الحق وأخطأ الصواب بمخالفته هذه فخسر الجنة والخلد فيها في الدنيا، أمّا الآخرة فمضمونة له، وكذلك خسر الملك الذي غرّرهما به إبليس مدة حياتهما وصار حالهما من الراحة الى التعب، ومن الصفاء الى الكدر ومن الرفاه الى الهم، ومن الفراغ الى الشغل، ومن الأمن الى الخوف، ومن الصحة الى المرض، واعتراهما ما يعتري أهل الدنيا وفارقهما ما يعترى أهل الجنة. الحكم الشرعي: قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال عاص لمن اعتاد المعصية لا لمن لم يعتدها، كالرجل يخيط ثوبه فيقال خاط ثوبه ولا يقال له خياط. وقد أجمع العلماء على أن ما وقع من آدم قبل النبوة بدليل قوله تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) تجاوز عما وقع منه «وَهَدى» وفقه للهداية بأن علمه كلمات كما يأتي ذكرها في الآية ٢٧ من البقرة في ج ٣ وهي من حيث المعنى مثل هذه الآية، إلا أن العطف جاء هنا يثم الدالة على التراخي، أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك، وهناك بالفاء الدالة على الفور أي أنه تاب عليه حالا، وعلى كل فالتوبة بعد وقوع المخالفة والنبوة بعدها، وما جاء على غير هذا لا قيمة له ولا عبرة به روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ احتج آدم وموسى «أي جادل وخاصم يقال حاججته جادلته فغلبته» فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة! فقال آدم أنت اصطفاك الله بكلامه وخطّ لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما، فحج آدم موسى. وفي رواية لمسلم: قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى بأربعين سنة، قال وهل وجدته

صفحة رقم 224

فيها وعصى آدم ربه؟ قال له نعم، قال فهل تلومني على أني عملت عملا كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله فحج آدم موسى عليهما السلام.
قال أبو سليمان الخطابي: يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر من الله على معنى الأجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره، ويتوهم بعضهم أنه حجّ آدم موسى من هذه الوجهة، وليس كذلك، وانما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها على تقدير منه وخلقه لها خيرها وشرها. والقدر أسم لما صدر مقدارا عن فعل القادر، والقضاء في هذا معناه الخلق، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم لهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وممارستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم ارادة واختيار، لأن الزاني لا يزني إلا وهو راغب للزنا مختار فيه، والشارب لا يشرب إلا وهو راغب فيه، وهكذا، فكيف يكون ذلك جبرا. أخزى الله المعاندين إذا فالحجة انما تلزمهم من هذا الوجه والملامة تلحقهم عليها منه، وجماع القول في هذا أن القضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمثابة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء، وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعلّة ذلك، وإنما كان تناوله الثمر من الشجرة سببا لنزوله الى الأرض التي خلق إليها، وأنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى وأوقع لائمة موسى على نفسه، ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما ومن هنا حصل الاختلاف في عصمة الأنبياء.
مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم:
واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع الى أربعة أقسام: الأول ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة. الثاني ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم

صفحة رقم 225

حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح، لأن الآية أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض، والا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا، ومن الناس من جوز سهوا لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء ولا عبرة ولا قيمة له. الثالث ما يقع بالفتيا فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطاهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء، فعدم جواز العمد من باب اولى، وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له، لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم، إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم. الرابع ما يقع من أفعالهم.
قال الإمام الفخر والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبأهم، لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة، إذ قد يجوز حفظ البعض منها من اقتراف الذنب واسناد هذا إليهم غير جائز، لأن درجتهم غاية في الرفعة والشرف، ولو جاز صدوره منهم لأدى الى عدم قبول شهادتهم، ولوجب الافتداء بهم فيما صدر منهم وهو محال، فيكونون وحاشاهم أقل حالا من عدول الأمة، وهذا أيضا غير جائز، لأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم مثلا، وهو يوم القيامة شاهد على الكل، راجع الآية ٤٠ من سورة النساء في ج ٣ والآية ٨٩ من سورة النحل في ج ٢ تجد ما يتعلق في هذا البحث مفصلا، وهذا ما عليه اجماع أهل السنة والجماعة، أما ما قاله بعض المعتزلة بجواز صدور الكبائر منهم، وما قاله بعضهم بمنع الكبائر وجواز صدور الصغائر منهم فقط على جهة العمد فلا عبرة به إذ لا مستند لهم به من الكتاب والسنة، فضلا عن أنه مخالف لهما فضلا عن عدم اتفاقهم عليه، لأن منهم الجبائي قال بعدم جواز صدور الكبيرة والصغيرة منهم موافقا لقول أهل السنة والجماعة، الا أنه زاد إلا على جهة التأويل كما وقع لآدم عليه السلام من أكل الشجرة على أنها غير المنهي عنها إما لمظنّة الخلد وإما لملك، ومنهم من جوز وقوعها سهوا وخطأ لا فرق عنده بين الكبيرة والصغيرة، ومنهم

صفحة رقم 226

من منع وقوع الكل سهوا وخطأ وتأويلا، وهو قال الشيعة، فاذا علمت هذا فاعلم أنه قد ثبت ببديهة العقل ان لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وأعلى مقامه وائتمنه على وحيه، وجعله خليفة في عباده وبلاده، يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله، فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» الآية ٤٤ من سورة البقرة، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» الآية ٨٨ من سورة هود في ج ٢، وقال تعالى «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الآية ٩٠ من سورة الأنبياء في ج ٢ واللفظ للعموم فيتناول الكل ويدل على ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت لك من هذا ومما سيأتي في تفسير الآيات الآنفة الذكر أن الأنبياء كلهم فاعلون لكل خير تاركون كل شر، وهذا ينافي صدور الذنب منهم، كيف وقد قال تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) الآية ٥٥ من سورة الحج في ج ٣، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الآية ٣٣ من آل عمران ج ٣ وقال في حق موسى (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) الآية ١٤٣ من الأعراف المارة وقال تعالى «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) الآيات ٤٦ فما بعدها من سورة ص المارة) وهذه الأدلة القاطعة تدل على وصفهم بالاصطفاء والأخيرية صراحة وذلك كله ينافي اقتراف الذنب مهما كان بعد النبوة لا عمدا ولا سهوا ولا نسيانا ولا خطأ قال في بدء الأمالي:

وان الأنبياء لفي أمان عن العصيان عمدا وانعزال
وأن من خالف هذا الإجماع وتمسك بظاهر بعض الآيات كالآية المفسرة وقال بصدور الذنب منهم على طريق التأويل أو غيره فإن كلامه إنما يتم إذا أثبت بالدلائل أن ما وقع من آدم عليه السلام كان حال النبوة أو بعدها، وذلك

صفحة رقم 227

محال قطعا لا دليل فيه ولا حجة له البته حتى لا يوجد نقل صحيح يستند إلى دليل والقاعدة إذا كنت ناقلا فصحة النقل، وإلا فكلامك مردود عليك. وإذا كان كذلك وهو كذلك فلم لا تقول إن ما وقع من آدم كان قبل النبوة، وأن الله تعالى قبل توبته وشرّفه بالنبوة والرسالة، فتطمئن وتنفي الشك من النفوس الخبيثة وتروضها على الطهارة والفضيلة وتنزه الأنبياء العظام عما لا يليق بمكانتهم، فتحصل رضاء الله تعالى، لأن رضاء الأنبياء في رضائه، ولا توقع نفسك بسبب الوهم والشك بالهلاك بسبب ما تصمهم به مما ليس فيهم، فتستوجب سخط الله باختيارك ورضاك؟ قال القاضي عياض قد أخبر الله بعذره فقال «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» أي نسي عداوة إبليس له فقبل نصحه ونسي ما عهد اليه بشأنها وشأن الشجرة ولم ينو المخالفة ولم يستعملها، ولكنه اغتر بحلف إبليس وظن أن أحدا لا يحلف بالله كذبا وتأول أن المأكول منها غير المنهي عنها وإذا قلت حينئذ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، فلو لم يكن لهم ذنوب فكيف يتوبون ويستغفرون، فأقول بما أن درجة الأنبياء في الرفعة والعلوّ والمعرفة بالله وسنة عباده وعظيم سلطانه وقوة بطشه مما يحملهم على شدة الخوف منه جل جلاله أو الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأن تصرفهم بأمورهم ما لم ينهوا عنه ولم يؤمروا به وقد أتوه على وجه التأويل والسهو، وقد تزودوا من الدنيا وأمورها المباحة، فأوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها، فهم خائفون وجلون على أنها تسمى ذنوبا بالإضافة الى سمو منصبهم وعلو مكانتهم، ومعاص بالنسبة لكمال طاعتهم وتمام انقيادهم الى ربهم، لأنها ذنوب كذنوب غيرهم التي يأتونها رغبة بلا تأويل، وحاشاهم من ذلك، وحاشاهم مما هنا لك. هذا، وقد اختلف في وقت العصمة: قالت الشيعة انهم معصومون من وقت الولادة، وقالت المعتزلة من وقت البلوغ، وقال أهل السنة والجماعة من وقت النبوة، وقال بهذا القول الهزيل واليافعي من المعتزلة، وهذا هو قول الحق الوسط وخير الأمور

صفحة رقم 228

أوساطها «قالَ» لآدم وزوجته حواء بعد أن انتهى أمد مكثهما في الجنة وحان أمر إقامتهما في الدنيا على أثر ما وقع منهما «اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً» انحدروا الى الأرض لأن الهبوط معناه الانحدار من العلو الى السفل على طريق القهر كهبوط الحجر، وإذا استعمل في الإنسان فعلى طريق الاستخفاف به «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» بالتحاسد في الدنيا والاختلاف بالدين وفي أمر المعاش وإنما جمع ضمير بعضكم مع أن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن العداوة نشأت في ذريتهما لا فيهما، وما قيل أن الخطاب لهما ولإبليس ينافيه قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» من كتاب ورسول وهذا الهدى الى ذريتهما لأن إبليس مقطوع بعدم هدايته وعدم إتيان الهدى اليه بكتاب او رسول، لأن الله تعالى حذر رسله منه وأمرهم أن يحذروا أممهم منه «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» من كافة خلقي «فَلا يَضِلُّ» في دنياه «وَلا يَشْقى» ١٢٣ بآخرته وإبليس محروم ومقطوع له بالشقاء بالدنيا ومجزوم بعذابه في الآخرة، قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولهذا البحث صلة في الآية ٣٤ فما بعدها من سورة البقرة في ج ٣، قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي» أي الكتاب المعبر عنه بالهدى الذي فيه ذكره، وأعرض عن الرسول المذكر به «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً» في هذه الدنيا «ضَنْكاً» ضيّقة وضنك وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال ابن عباس كل ما أعطي لعبد في هذه الدنيا قل أو كثر ولم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة في الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا لأنهم
يرون أن الله ليس بمخلف عليهم ما ينفقونه، وينسون ما أنعمه عليهم ابتداء وقد ولدتهم أمهاتهم مجرّدين فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله. وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياتهم طيبة، ومع الاعراض الحرص والشح فعيشته ضنك، وحالته مظلمة، كما قال بعض الصوفية لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه ولهذا قال تعالى «وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ

صفحة رقم 229

الْقِيامَةِ أَعْمى»
١٢٤ فاقد البصر لأنه يحشر على وجهه فلا يرى ببصره ما يراه غيره، لأنه منكوس، وإلا فإن الله تعالى يعيد للأعمى بصره يوم القيامة، وكذلك مقطوع اليد والرجل وغيرها من القلعة بحيث يحشر كاملا كما ولد، ونظير هذه الآية الآية ٣٢ من سورة الفرقان المارة والآية ٩٧ من سورة الإسراء الآتية، قال بعض المفسرين فاقد الحجة جاهل بوجود الحق كما كان في الدنيا إذ يطلق على الجاهل في الأمر أعمى لأنه لا يعرف المخلص مما يقع فيه، كما أن الأعمى لا يعرف الطريق الى مبتغاه، قال عليه الصلاة والسلام من لا يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة، الا أن سياق الآية يؤيد التفسير الأول لموافقته لظاهرها وعليه المعول إذ لا يعدل عن الظاهر إلا عند إمكان التفسير به «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى» اليوم في الآخرة «وَقَدْ كُنْتُ» في الدنيا «بَصِيراً» «قالَ كَذلِكَ» مثل ما فعلت بنا في الدنيا فعلنا بك في الآخرة حيث «أَتَتْكَ آياتُنا» فيها «فَنَسِيتَها» ولم تعمل بها ولم تتبع من أتاك بها «وَكَذلِكَ» مثل نسيانك هذا لآياتنا في الدنيا «الْيَوْمَ تُنْسى» ١٢٦ في الآخرة من خيرنا، ولهذا حرمناك الآن نعمة النظر فيها جزاء وفاقا، فتركك الآن على عماك الذي كنت عليه في الدنيا لأنك لم تستعمل نعمة النظر فيها بآياتنا ومكوناتنا، فتعتبر وتؤمن بل حرفتها لغير ذلك «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الواقع بالمقابلة «نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ» في دنياه ولم يستعمل جوارحه فيما خلقت لها بل صرفها الى المعاصي ولم ينتفع بالنعم التي خلقت لها «وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ» أما من آمن بها واستعمل جوارحه وحواسّه فيما خلقت لها، فأولئك لم ننسهم من الرحمة ولم نحرمهم من الخير، بل نرفعهم الى الدرجات العلى مثل السحرة المار ذكرهم في الآية «٧٠» من الأعراف والآية ٧٣ من هذه السورة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى» ١٢٧ من عذاب الدنيا وأعظم مهما رأيتموه شديدا، وأدوم لأن عذاب الدنيا له نهاية ولا نهاية لعذاب الآخرة فضلا عن فظاعته التي لا تكيف، فان قلت قد ورد وان الله تعالى يري الكافر مقعده في الجنة ثم يدخله النار ليزداد عذابا على عذابه وحسرة على حسرته، فمن يحشر أعمى لا يرى ذلك فيكون بحقه

صفحة رقم 230

أقل عذابا وحسرة، قلت لأن الله تعالى يرد عليه بصره حتى يريه مقعده ذلك، ثم يسلبه منه، وكذلك الأصم والأبكم، قال تعالى «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» أي لا أسمع ولا أبصر منهم يوم يأتونه، راجع الآية ٣٨ من سورة مريم المارة والآية ٣، من سورة الكهف في ج ٢، وقال ابن عباس إن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى، فيكون الإخبار بأنه كان بصيرا إخبارا مما كان عليه أول حشره، لانه لو لم يردّ عليه بصره كيف يقرأ كتابه؟ كما يأتي في الآية ١٤ من الإسراء الآتية، ولا يخفى أن ذلك اليوم يوم طويل تختلف فيه أحوال الكفار فمرة يجادلون وأخرى يشكون، وطورا يعمون، وتارة يبصرون أجارنا الله من ذلك، قال تعالى ملتفتا الى كفار مكة «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي ألم يبين لهم هذا القرآن «كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الماضية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» إذا سافروا للشام إذ يمرون بالحجر ديار ثمود وقريات قوم لوط ولا يتفكرون فيما كان عليهم أهلها، وكيف صار تدميرهم، وسببه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» واضحات موجبة للاعتبار «لِأُولِي النُّهى» ١٢٨ العقول السليمة يتعظون بها حيث كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة، فلما عصوا رسلهم أهلكهم الله «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي الوعد بتأخير العذاب ليؤمن من يؤمن منهم ويصر من يصر على كفره وفق ما هو مقدر في الأزل بالتقدير المبرم الذي لا يبدل ولا يقدم ولا يؤخر «لَكانَ لِزاماً» حتما نزوله بهم حالا لا ينفك عنهم أبدا، وكلمة لزام لم تكرر في القرآن إلا هنا وآخر سورة الفرقان، وهي بمعنى
لازم وصف به للمبالغة، وهكذا يؤتى بالمصادر بدل اسم الفاعل بقصد المبالغة «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» ١٢٩ بالرفع عطف على كلمة في (ولولا كلمة) أي لولا كلمة سبقت بتأخير عقوبتهم وضرب أجل لوقوعها اما بانقضاء أعمارهم أو بحلول يوم القيامة لما تأخر عنهم العذاب، بل لنزل بهم حالا، ولكن حال دون ذلك تلك الكلمة والأجل اللذان لا يتبدلان، وهنا فيه المقدم والمؤخر وفيه مظنة الغلط لمن لا يعلم ذلك، وهو من أنواع البديع المستحسن وجوده في الكلام البليغ الفصيح، قال تعالى مخاطبا رسوله

صفحة رقم 231
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية