
ثم وحّد نفسه فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ٢٣]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨)
قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
وَهَلْ أَتاكَ يا محمد حَدِيثُ مُوسى قال أهل المعاني: هو استفهام اثبات «١» مجازه:
أليس قد أتاك؟. وقال بعضهم: معناه: وقد أتاك، وقال: لم يكن قد أتاه «٢» ثم أخبره.
إِذْ رَأى ناراً ليلة الجمعة، وقال وهب بن منبّه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد «٣» عن الطريق، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق فَقالَ لِأَهْلِهِ لامرأته امْكُثُوا أقيموا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ أبصرت ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ يعني شعلة من النار، والقبس: ما اقتبس من خشب أو قصب «٤» أو غير ذلك أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً يعني من يدلّني على الطريق فَلَمَّا أَتاها رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتقدّم «٥»، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وتعّجب، فألقيت عليه السكينة ثمّ نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وإنّما كرّر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة، ونظيره قوله للرسول عليه السلام وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «٦».
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وكان «٧» السبب في أمره بخلع نعليه
ما أخبرنا عبد الله بن حامد «٨»،
(٢) في نسخة أصفهان: أتاك، وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه.
(٣) في المخطوط: جار.
(٤) في نسخة أصفهان: قيس.
(٥) في نسخة أصفهان: تنفد.
(٦) الحجر: ٨٩.
(٧) في نسخة أصفهان: أي فانزع و.
(٨) في نسخة أصفهان زيادة: الاصفهاني.

قال: أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال: حدّثنا أحمد بن نجدة قال: حدّثنا الحمّاني قال:
حدّثنا عيسى بن يونس «١» عن حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحرث العنبسي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ قال: كانتا من جلد حمار ميّت «٢»
، وفي بعض الأخبار: غير مدبوغ «٣»، وقال الحسن: ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نعليه؟ وإنّما أمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنّهما كانتا من جلد حمار، وقال أبو الأحوص: أتى عبد الله أبا موسى في داره فأقيمت الصلاة فقال لعبد الله تقدّم، فقال له عبد الله: تقدّم أنت في دارك فتقدّم فنزع نعليه، فقال له عبد الله: أبِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أنت؟.
وقال عكرمة ومجاهد: إنّما قال له: اخلع نعليك كي تمسّ راحة قدميك الأرض الطيّبة وينالك بركتها لأنّها قدّست مرّتين.
وقال بعضهم: أمر بذلك لأنّ الحفوة من أمارات التواضع، وكذلك فعل السّلف حين طافوا بالبيت.
قال سعيد بن جبير: قيل له: طأ الأرض حافيا، كيما يدخل كعبه من بركة الوادي.
وقال أهل الإشارة: معناه: فرّغ قلبك من شغل الأهل والولد.
قالوا: وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوّج.
فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ المطهّر طُوىً اسم الوادي، وقال الضحاك: مستدير عميق مثل الطوى في استدارته، وقيل: أراد به إنك تطوي الوادي، وقيل: هو الليل، يقال: أتيتك طوى من الليل، وقيل: طويت عليه البركة طيّا، وقرأ عكرمة: طِوىً بكسر الطاء وهما لغتان، وقرأ أهل الكوفة والشام: طُوىً بالتنوين وإلّا جرّا لتذكيره وتحقيقه، الباقون من غير تنوين، قال: لأنّه معدول عن طاو أو مطوىّ، فلمّا كان معدولا عن وجهه كان مصروفا عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم.
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك، وقرأ حمزة: وإنّا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ولا تعبد غيري وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قال مجاهد: أَقِمِ الصَّلاةَ لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت الصلاة ثمّ ذكرتها فأقمها، يدلّ عليه ما
أخبرنا عبد الله بن حامد «٤» قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا إبراهيم بن
(٢) سنن الترمذي: ٣/ ١٣٨.
(٣) السنن الكبرى: ٣/ ٢٥٥.
(٤) في الثانية زيادة: الوزّان. [.....]

مرزوق قال: حدّثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها، إنّ الله سبحانه يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
«١».
وقيل: هو مردود على الوحي يعني فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى واستمع لذكري.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها فأكاد «٢» صلة، كقول الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه | فما أن يكاد قرنه يتنفس «٣» |
وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يخفي الله من نفسه وهو خلق الإخفاء؟ قلنا: إنّ الله سبحانه كلّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه، ألا ترى أنّ الرجل يعذل أخاه فيقول له: أذعت سرّي، فيقول مجيبا له معتذرا إليه: والله لقد كتمت سرّك نفسي فكيف أذعته؟! معناه عندهم: أخفيته الإخفاء كله، وقال الشاعر:
أيام تعجبني هند وأخبرها | ما أكتم النّفس من حاجي وإسراري «٤» |
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: أَخْفِيها بفتح الألف أي أظهرها وأبرزها يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته، قال امرؤ القيس:
خفاهنّ من إنفاقهنّ كأنّما | خفاهنّ ودق من سحاب مركّب «٥» |
لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي تعمل من خير وشرّ فَلا يَصُدَّنَّكَ يصرفنّك عَنْها يعني عن الإيمان بالساعة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ مراده فَتَرْدى فتهلك.
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل «٦» أَتَوَكَّؤُا اعتمد عَلَيْها إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة
(٢) في نسخة أصفهان: بمعنى أخفيها وأكاد.
(٣) لسان العرب: ٣/ ٣٨٤.
(٤) تفسير القرطبي: ١١/ ٨٥، والعبارة: أيام تصحبني هند وأخبرها.
(٥) كتاب العين: ٤/ ٣١٤.
(٦) في نسخة أصفهان: مجاهد.

والطفرة. وَأَهُشُّ وأخبط بِها الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي، وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين يعني وازجر بها الغنم، وذلك أن العرب تقول: هس هس، وقال النضر بن شمّيل: سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال: العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام، كقولهم:
شمّت العاطس وسمّته، وشن عليه الدرع وسن، والروشم والروسم للختم.
وَلِيَ فِيها مَآرِبُ حوائج ومنافع، واحدتها مأربة ومأربة بفتح الراء وضمّها أُخْرى ولم يقل أخر لرؤوس الآي.
قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تماشيه وتحدّثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يردّ بها غنمه، وتقيه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدّو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد الإسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها، فهذه المآرب.
قال الله سبحانه أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها من يده فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي مسرعة على بطنها.
قال ابن عباس: صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورّم حتى صارت ثعبانا، وهو أكبر ما يكون من الحيّات، فلذلك قال في موضع كَأَنَّها جَانٌّ وهو أصغر الحيّات، وفي موضع ثعبان وهو أعظمها، فالجانّ عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان إخبار عن انتهاء حالها، وقيل: أراد أنّها في عظم الثعبان وسرعة الجانّ، فأمّا الحيّة فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأنثى.
قال فرقد السخي: كان ما بين جنبيها أربعين ذراعا فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لمّا رأى من الأعجوبة قالَ الله تعالى له خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا أي إلى سيرتها وهيئتها الْأُولى نردّها عصا كما كانت وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يعني إبطك.
وقال الكلبي: أسفل من الإبط، وقال مجاهد: تحت عضدك، وقال مقاتل: يعني مع جناحك وهو عضده تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ برص ولا داء آيَةً أُخْرى سوى العصا، فأخرج يده من مدرعة له مضرّبة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وكان من حقّه الكبر وإنّما قال: الْكُبْرى وفاقا لرءوس الآي، وقيل: فيه إضمار معناه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الآية الكبرى «١» دليله قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته.