
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) ﴾
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "نَنْفُخُ " بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ: "وَنَحْشُرُ "، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾ الْمُشْرِكِينَ، ﴿يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ وَالزُّرْقَةُ: هِيَ الْخُضْرَةُ: فِي سَوَادِ الْعَيْنِ، فَيُحْشَرُونَ زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: ﴿زُرْقًا﴾ (١) أَيْ عُمْيًا. وَقِيلَ: عِطَاشًا. ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ خُفْيَةً، ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ أَيْ مَا مَكَثْتُمْ فِي الدُّنْيَا، ﴿إِلَّا عَشْرًا﴾ أَيْ عَشْرَ لَيَالٍ. وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ. وَقِيلَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُرْفَعُ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا (٢). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ أَيْ يَتَسَارُّونَ (٣) بَيْنَهُمْ، ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾ أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَأَعْدَلُهُمْ قَوْلًا ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾ قَصُرَ ذَلِكَ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي جَنْبِ مَا اسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: نَسُوا مِقْدَارَ لَبْثِهِمْ لِشِدَّةِ مَا دَهَمَهُمْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (٤).
وَالنَّسْفُ هُوَ الْقَلْعُ، أَيْ: يَقْلَعُهَا مِنْ أَصْلِهَا وَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُورًا.
﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) ﴾
﴿فَيَذَرُهَا﴾ أَيْ: فَيَدَعُ أَمَاكِنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَرْضِ، ﴿قَاعًا صَفْصَفًا﴾ أَيْ: أَرْضًا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَ"الْقَاعُ": مَا انْبَسَطَ مِنَ الْأَرْضِ، وَ"الصَّفْصَفُ": الْأَمْلَسُ.
(٢) ذكر هذه الأقوال صاحب زاد المسير: ٥ / ٣٢١. وذكر ابن جرير أنه اللبث في الدنيا، الطبري ١٦ / ٢١١.
(٣) في "ب" يتشاورون.
(٤) انظر: روح المعاني: ١٦ / ٢٦١.

﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: انْخِفَاضًا وَارْتِفَاعًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْعِوَجُ": مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ، وَ"الْأَمْتُ": مَا نَشَزَ مِنَ الرَّوَابِي، أَيْ: لَا تَرَى وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً.
قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَرَى فِيهَا صَدْعًا وَلَا أَكَمَةً (١). ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ أَيْ صَوْتَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَضَعُ الصُّورَ فِي فِيهِ، وَيَقُولُ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَفَرِّقَةُ هَلُمُّوا إِلَى عَرْضِ الرَّحْمَنِ (٢).
﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾ أَيْ: لِدُعَائِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي، لَا يَزِيغُونَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بَلْ يَتَّبِعُونَهُ سِرَاعًا.
﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ أَيْ: سَكَنَتْ وَذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، وَوَصَفَ الْأَصْوَاتَ بِالْخُشُوعِ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، ﴿فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ يَعْنِي صَوْتَ وَطْءِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَ"الْهَمْسُ": الصَّوْتُ الْخَفِيُّ كَصَوْتِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي الْمَشْيِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تَخَافُتُ الْكَلَامِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ (٣). ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾ يَعْنِي: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾
(٢) انظر: روح المعاني ١٦ / ٢٦٤، أضواء البيان: ٤ / ٥١٦.
(٣) انظر تفصيلا في نسبة هذه الأقوال: ابن كثير ٣ / ١٦٦ - ١٦٧، والطبري: ١٦ / ٢١٤ - ٢١٥، زاد المسير: ١٦ / ٢٦٤، والبحر المحيط: ٦ / ٢٨٠.