
بأنه استحوذ عليها وملك أمرها، حتى لم يعد فيها استعداد لغيره، وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن خذله وأمدّ له في ضلاله، إذ لم يمنعه حقا وجب له، فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم.
ويوضحه آيتان أخريان هما: وَقالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة ٢/ ٨٨]، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت ٤١/ ٤- ٥]، فهم باستكبارهم وعنادهم لا يخرجون عن سلطان الله، وأن الله سبحانه خالق كل شيء من الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والإنسان هو الذي يختار أحد المنهجين.
صفات المنافقين- ١-
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
الإعراب:
مَنْ يَقُولُ وحد الضمير في الفعل مراعاة للفظ «من» وتجوز مراعاة المعنى، فيجمع.
يُخادِعُونَ اللَّهَ أي نبيّ الله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الباء تتعلق بفعل مقدّر، أي استقر لهم. و «ما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، أي بكونهم يكذبون.

البلاغة:
وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ المتبادر أن يقال: «وما آمنوا» ليطابق قوله مَنْ يَقُولُ آمَنَّا ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم، لإخراجهم من عداد المؤمنين، وأكده بالباء مبالغة في تكذيبهم.
يُخادِعُونَ اللَّهَ استعارة تمثيلية، شبه حالهم مع ربهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر بحال رعية تخادع سلطانها، وأستعير المشبه به للمشبه بطريق الاستعارة.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كناية، كنّى بالمرض في القلب عن النفاق، لأن المرض فساد للجسد، والنفاق فساد للقلب.
المفردات اللغوية:
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. والنفاق: اسم شرعي جعل سمة لمن يظهر الإيمان ويسرّ الكفر.
يُخادِعُونَ يعملون عمل المخادع، والخداع: صرف الغير عما يقصده بحيلة، والمراد هنا:
إظهار الإسلام وإضمار الكفر.
مَرَضٌ المرض: العلة، والمراد هنا شك ونفاق وتكذيب وجحود. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: شكّا.
التفسير والبيان:
هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس، وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صمّا بكما عميا، وضرب لهم الأمثال، فهم أشدّ خطرا على الإسلام من الكفار صراحة.
ولا تقتصر أوصاف المنافقين على المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فقط، بل في كل عصر إذا وجدت صفاتهم.
وأول هذه الصفات النطق بالإيمان باللسان، وامتلاء القلب بالكفر والضلال. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين في عصر النّبوة، وكان

أكثر أصحابه من اليهود، وكانوا يدّعون الإيمان، فردّ الله عليهم دعواهم، وأنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، وإن تظاهروا به، ولا شكّ أنهم بهذا في صورة المخادعين لله، والله يعلم عنهم ذلك، فهم أشد ضررا من الكفار، ولهم في الآخرة عذاب أليم بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر.
ونظرا لقصور عقولهم تصوّروا أنهم يخدعون الله تعالى، وهو منزّه عن ذلك، فإنه لا يخفى عليه شيء، وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم، والله قادر على كشف أمرهم للمسلمين.
ومع كل ذلك يأمر الله بإجراء أحكام الإسلام عليهم، كأنه يخادعهم، على سبيل المشاكلة والمحاكاة والمشابهة لفعلهم، وكأن المسلمين حيث امتثلوا أمر الله فيهم مخادعون لهم، من باب التشبيه والتمثيل، للإشارة إلى أن المنافقين هم الخادعون المخدوعون.
والصحيح- كما قال ابن العربي «١» - أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقتلهم وأعرض عنهم لمصلحة تألف القلوب عليه، ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير، لئلا تنفر عنه القلوب، وقد أشار هو صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى،
فقال: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يقتل أصحابه»
وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم، مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن النفاق مرض خطير، وإن المنافقين شوكة مؤذية تطعن المجتمع من الداخل، وكان المتبادر إلى الذهن في تقديرنا أن تستأصل شأفة النفاق

والمنافقين، حتى ترتاح الدولة منهم، وكذلك تفعل الدول الآن، إلا أن للوحي الإلهي والتشريع السماوي حكمة عميقة الأثر، بعيدة المدى، تنتظر أحداث المستقبل، ليظهر للناس قصور علمهم أمام سعة العلم الإلهي، فكثيرا ما لاقى النّبي صلّى الله عليه وسلّم الأذى من المنافقين ولكنه انتصر في النهاية عليهم، ولعل ذلك من أصدق البراهين التاريخية على أن النفاق واليهودية شيئان متلازمان: لأنه ينشأ عن جبن حقيقي ولؤم طبعي، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله، ويظهر النعومة، ولكنها السّم الزعاف في الدسم.
وتشير الآيات إلى أن الكذب هو شعار المنافقين، لذا حذر الله المؤمنين منه أشد التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان» «١».
وإذا كان الكذب شعار المنافقين، فإن الصراحة في القول، والجرأة في العمل الموافق للاعتقاد شعار المؤمنين الصادقين، الذين يستحقون كل تكريم، فتكون العظة بإيراد صفات المنافقين أشد أثرا، وأحكم أمرا للمؤمنين أنفسهم، إذ امتازوا بالثبات على الحق، وظل المنافقون في نفاقهم وزاد تمسكهم بما هم عليه، وأبوا الإيمان، وأعرضوا عن القرآن، وازداد مرض قلوبهم، وتحرقت نفوسهم بعد ما جاءهم البشير النذير، وعلا مجده وكثر أتباعه، على ما فاتهم من الزعامة، وحسدا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه.