
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وغلف جمع أغلف وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ...)، وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لَا يفقهون بها، فهم لَا يدركون، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق، وهم يقولون ذلك القول مصرِّين على التكذيب؛ ولذا قال تعالى: (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته، وهو حكم تقريري، مثبت لغلف قلوبهم، والإضراب في قوله تعالى: (بَل لَّعَنَهُمُ) إضراب عن قبول اعتذارهم، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية.
صفحة رقم 306
ويفسر ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما معنى قولهم في قلوبنا غلف " إن قلوبنا ممتلئة علما لَا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره، وقرأ ابن عباس غُلُف جمع غلاف، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم، ويمنع أن يدخل إليه غيره، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم، ويكون معنى: (بَل لَّعَنَهُم اللَّهُ) لعناهم، وطردناهم، فالإضراب في " بل " رد لادعاء العلم بالنبوات، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية، والرسالات الإلهية التي انتهتا برسالة خاتم النبيين محمد - ﷺ - (١).
وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء: (فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).
وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها، فقال تعالى: (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به، و " ما " في النص السامي الكريم للدلالة على القلة الشديدة، والمعنى فقليلا أي قلة يؤمنون، والعلة واضح أنها في العدد لَا في الإيمان، فالإيمان لَا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لَا يكون إلا كاملا، فالقلة والكثرة في عدد المؤمنين لَا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لَا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى: (فَقَلِيلًا مَّأ يؤمِنونَ) إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره: إيمانا قليلا أي (قلة يؤمنون) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل
________
(١) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " إِنَ مَثَلِي وَمَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قبِلي كَمَثَلِ رَجُل بنى بَيْتًا، فَأحْسَنَهُ وَأجْمَلَهُ إلا مَوْضِعَ لَبنَة مِنْ زَاويَة، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأنَا اللبِنَةُ وَأنَا خاتِمُ النَّبِيينً) [متفق عليه؛ أخرجه البخَاري: كتاب المناقب (٣٢٧١) ومسلم: كتاب الفضائل (٤٢٣٩) وغيرهما].

الكتاب: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد - ﷺ -: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥).
* * *
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
* * *
ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبي - ﷺ - بصفة خاصة، وهي في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لايعبدون إلا الله، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وألا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، خوطب أسلافهم بذلك، وكان الخطاب موجها

لهم، والميثاق في رقابهم ولذلك ندد بقتلهم أنفسهم، وإخراجهم فريقا منهم من ديارهم.
قال تعالى: