آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْءَاتَيْنَا موسى الكتاب... ﴾
إن قلت: الخطاب لليهود وهم معترفون بنبوة موسى عليه السلام فما فائدة القَسم على ذلك؟
قلنا: فائدته التنبيه على مساواة غيره من الرسل الآتين بعده (له) في النبوة، وأن نبوتهم حق كما (هي) نبوة موسى عندهم حق.
قال ابن عرفة: وهذه معجزة للنَّبي صلى الله عليه وسلّم، لأنّ القاعدة أن من ادّعى أمرا محالا لم يسمع منه، وإن ادعى أمرا ممكنا (سمع منه وطلب) بالدّليل على صحّته. والدليل قسمان:

صفحة رقم 363

جدلي برهاني للخواص، ودليل للعوام، فبين لهم أولا أنه ادّعى أمرا ممكنا، (واستدلّ عليه لهم بدليل برهاني) خاص بالخواص، ثم استدلّ لهم الآن بالدليل الّذي يفهمه العوام، وهو أنّه إنّما (ادّعى) أمرا تكرر أمثاله قبله فلم يأتكم بأمر غريب فهو ممكن عقلا، (واقع) أمثاله بالمشاهدة، فحقكم أن تنظروا في معجزته فتؤمنوا به.
فإن قلت: ما أفاد «مِن بَعْدِهِ» مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟
قلت: لإفائدة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى. وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد (ممن) تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء.
فإن قلت: لِم خصّص عيسى بذكر (الآيات) البينات؟
قلنا لوجهين: إما لأنه بَشّر بنبينا سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه

صفحة رقم 364

أَحْمَدُ} واستظهر على صحة قوله بمعجزات واضحات، وإمّا لأنّ الخطاب لليهود وهم كافرون بعيسى، (فمعناه) أرسلنا من بعده موسى رسلا، منهم عيسى ورسالته، (قام) الدليل على صحتها، وأنها نسخت شريعة نبيكم موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكذلك هذه الرسالة.
قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُكُمُ... ﴾
قال ابن عرفة: هذا نهي عليهم، ومبالغة في ذمّهم، لأن ما لا تهواه (النفس) أعمّ مما تكرهه (النّفس)، والمعنى أنهم مهما أتاهم رسول من عند الله تعالى بأمر (لا يحبونه) سواء كانوا يكرهونه أو لا، فإنّهم (يستكبرون) ويكفرون به ونظيره قوله تعالى في سورة العقود: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾ ولم يقل: ومن حكم بغير ما أنزل الله، فيتناول من ترك الحكم ولم يحكم بشيء، لأن الفصل بين المسلمين بالحق واجب.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: لم قال «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» بالماضي «وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» بالمضارع؟ وأجاب بان التكذيب في أفراد متعلقاته كله ماض، والقتل في (بعض) آحاد متعلقاته مستقبل، لأنهم

صفحة رقم 365

كانوا يحبون أن يقتلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أهدت له يهودية في (خيبر) شاة مصلية وسمت فيها الذراع، لأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحبه، وأخبره الذراع بالسم بعد أن لاكه في فيه، ثم ألقاه منه، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في مرضه الذي (انتقل فيه إلى الفردوس الأعلى) : ما زالت من الأكلة التي أكلت بخيبر (فهذا أوان انقطاع) أبهري. ولهذا يقال: إن النبي صلى الله عليه ولم مات شهيدا.

صفحة رقم 366
تفسير ابن عرفة
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونسي المالكي
تحقيق
حسن المناعي
الناشر
مركز البحوث بالكلية الزيتونية - تونس
سنة النشر
1986
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية