
سنة، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس. والثاني:
أنهم قالوا: عتب علينا ربنا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إِلا أربعين يوماً تحلّة القسم، وهذا قول الحسن وأبي العالية. والثالث: أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل. والقول الثاني: أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوماً من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس.
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، أي: عهد إليكم أنه لا يعذّبكم إلا هذا المقدار؟!
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً بلى: بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النهي، و «نعم» جواب الإيجاب، قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك عليَّ شيء، فقال الآخر: نعم، كان تصديقاً أن لا شيء له عليه. ولو قال: بلى كان رداً لقوله: قال ابن الأنباري: وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة «بل». و «بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: ما قام أخوك، بل أبوك. وإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم؟ فقال له: بلى أراد: بل أقوم، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال: بل، كان يتوقع كلاماً بعد بل، فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب، ومعنى بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً: بل من كسب. قال الزجاج: بلى: رد لقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. والسيئة هاهنا: الشرك في قول ابن عباس وعكرمة، وأبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل. وَأَحاطَتْ بِهِ، أي:
أحدقت به خَطِيئَتُهُ، وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع. قال عكرمة: مات ولم يتب منها، وقال أبو وائل: الخطيئة: صفة للشرك، قال أبو علي: إما أن يكون المعنى: أحاطت بحسنته خطيئته، أي:
أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «١»، وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «٢»، أو يكون معنى أحاطت به: أهلكته، كقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «٣».
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة. وقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بالتاء على الخطاب لهم. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: بالياء على الإخبار عنهم. قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، أي: ووصّيناهم بآبائهم
(٢) الكهف: ٢٩.
(٣) يوسف: ٦٦.

وأمهاتهم خيراً. قال الفراء: والعرب تقول: أوصيك به خيراً، وآمرك به خيراً، والمعنى: آمرك أن تفعل به، ثم تحذف «أن» فيوصل الخير بالوصية والأمر. قال الشاعر:
عجبت من دهماء إذ تشكونا... ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيراً بها كأننا جافونا وأما الإحسان إلى الوالدين فهو برهما. قال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. وقالت عائشة: ما بر والده من شدَّ النظر إليه، وقال عروة: لا تمتنع عن شيء أحبَّاه.
قوله تعالى: وَذِي الْقُرْبى، أي: ووصيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم. وأما اليتامى فجمع: يتيم. قال الأصمعي: اليتم في الناس، من قبل الأب، وفي غير الناس: من قبل الأمّ. وقال ابن الأنباري: قال ثعلب: اليتم معناه في كلام العرب: الانفراد: فمعنى صبي يتيم: منفرد عن أبيه.
وأنشدنا:
أفاطم إِني هالك فتبيَّني... ولا تجزعي كلّ النّساء يتيم
وقال: يروى: يتيم ويئيم، فمن روى يتيم بالتاء أراد: كل النساء ضعيف منفرد. ومن روى بالياء أراد: كل النساء يموت عنهن أزواجهن. وقال: أنشدنا ابن الأعرابي:
ثلاثة أحباب: فحب علاقة... وحب تِملاَّق وحبُّ هو القتل «١»
قال: فقلنا له: زدنا، فقال: البيت يتيم، أي: هو منفرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا بلغ الصبي، زال عنه اسم اليتم. يقال منه: يتم ييتم يُتما وَيَتما، وجمع اليتيم: يتامى، وأيتام. وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة. قال: وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وبه سمي اليتيم، لأنه يتغافل عن برّه. والمرأة تدعى: يتيمة ما لم تزوج، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم، وقيل: لا يزول عنها اسم اليتم أبداً. وقال أبو عمرو، اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطئ عنه.
«والمساكين» : جمع مساكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المساكين قد أسكنه الفقر. وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: حُسْناً بضم الحاء والتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي: (حَسَناً) بفتح الحاء والتثقيل. قال أبو علي: من قرأ «حُسْناً» فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبُخْل، والبَخَل، والرُشد والرشَد. وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العُرب والعرَب ويجوز أن يكون الحسن مصدراً كالكفر والشكر والشغل، وحذف المضاف معه، كأنه قال: قولوا قولاً ذا حسن. ومن قرأ (حَسَناً) جعله صفة، والتقدير عنده: قولوا للناس قولاً حسناً، فحذف الموصوف. واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج. ومعناه: اصدقوا وبينوا صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو العالية: قولوا للناس معروفاً، وقال محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام: كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم. وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إِلى الإسلام. فعلى هذا، تكون منسوخة بآية السيف.