آيات من القرآن الكريم

بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

يكذبون ويحدثون، لأنه لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرءون به. وقد أجمع السلف في صدر الإسلام وأهل القرون الثلاثة على بطلان التقليد في العقائد. وإنما كان الجاهل في تلك القرون يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان «١».
وأومأ الخطاب في هذه الآيات لليهود المعاصرين للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى أنه لا أمل في إيمان اليهود بالقرآن وبدعوة الرسول محمد، فالمعاصرون توارثوا طبائع الآباء وأخلاقهم، وتأصلت فيهم روح التمرد والإعراض عن كلام الله، وكان آباؤهم أكثر الناس مراء وجدالا في الحق، وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش، وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص، وأفضل الناس، كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدّتهم عن قبول الإسلام «٢».
تحريف أحبار اليهود وافتراءاتهم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)

(١) تفسير المنار: ١/ ٣٥٩
(٢) المصدر السابق: ١/ ٣٦٠

صفحة رقم 201

الإعراب:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ مبتدأ وخبر، وجاز أن يكون «ويل» مبتدأ وإن كان نكرة، لأن في الكلام معنى الدعاء، كقولهم: سلام عليكم.
بَلى حرف يأتي في جواب الاستفهام في النفي، و «نعم» يأتي في جواب الاستفهام في الإيجاب. فإذا قال: ألست فعلت كذا؟ فجوابه: بلى، أي إني قد فعلت، كقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف ٧/ ١٧٢] أي بلى أنت ربّنا، ولو قالوا: نعم، لكفروا، لأنه يصير المعنى: نعم لست ربّنا. وإذا قال في الإيجاب: هل فعلت؟ فجوابه: نعم، كقوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا: نَعَمْ [الأعراف ٧/ ٤٤]. مَنْ كَسَبَ من شرطية مبتدأ، والفاء في «أولئك» جواب الشرط، وفَأُولئِكَ مبتدأ ثان، وأَصْحابُ النَّارِ خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وهو مَنْ. وهُمْ فِيها خالِدُونَ جملة اسمية حال من أَصْحابُ أو من النَّارِ. وفِيها في موضع نصب، وتقديره: خالدون فيها.
البلاغة:
تكرار فَوَيْلٌ ثلاث مرات في الآية (٧٩) للتوبيخ والتقريع وتقبيح جريمتهم وهي التحريف.
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ استعار لفظ الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء نزل بقوم من كل جانب.
المفردات اللغوية:
فَوَيْلٌ الويل: شدة العذاب والهلاك، أو واد في جهنم بِأَيْدِيهِمْ أي مختلقا من عندهم لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا، وهم اليهود غيّروا صفة النبي في التوراة، وآية الرجم، وغيرهما، وكتبوها على خلاف ما أنزل. مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المختلق، مِمَّا يَكْسِبُونَ من الرشا: جمع رشوة.
لَنْ تَمَسَّنَا تصيبنا إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قليلة أربعين يوما مدة عبادة آبائهم العجل.
أَتَّخَذْتُمْ حذفت منه همزة الوصل، استغناء بهمزة الاستفهام عَهْداً ميثاقا منه بذلك. أَمْ تَقُولُونَ.. بل.
كَسَبَ سَيِّئَةً المراد بها هنا الكفر أو الشرك. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بالإفراد

صفحة رقم 202

والجمع، أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب، بأن مات مشركا فَأُولئِكَ روعي فيه معنى: من.
سبب النزول:
نزلت الآية (٧٩)
في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: «الذين غيّروا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبدلوا نعته»، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه حسدا وبغيا، وقالوا: نجده طويلا أزرق، سبط الشعر.
ونزلت الآية (٨٠)
كما
قال ابن عباس: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلى قوله خالِدُونَ.
وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تحلة القسم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية «١»
التفسير والبيان:
الهلاك والعذاب الشديد أو العقوبة العظيمة لمن حرفوا التوراة، وكتبوا الآيات المحرفة بأيديهم، وغيّروا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي كانت مكتوبة عندهم في التوراة، والعذاب أيضا لهم لأخذ الرشوة وفعلهم المعاصي، ونسبتهم الافتراءات إلى الله تعالى، ليأخذوا بهذا الكذب أو الافتراء ثمنا دنيويا حقيرا من مال أو رياسة أو جاه، فويل لهم مما كسبوا، لأنه كانت لليهود جنايات ثلاث: تغيير

(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٤، للسيوطي بهامش الجلالين: ص ١٧- ١٨، تفسير الطبري: ١/ ٣٠٢ وما بعدها، تفسير القرطبي: ٢/ ١٠

صفحة رقم 203

صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددوا على كل جناية بالويل والهلاك.
ومن مزاعم اليهود: ادعاؤهم أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة، هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، وأكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام فقط، لأن عمر الدنيا في زعمهم سبعة آلاف سنة، فمن عذب في النار ولم يحظ بالنجاة، يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم. فرد الله عليهم: هل عهد بذلك ربكم إليكم، ووعدكم به وعدا حقا، فلن يخلف الله وعده، أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به؟ أي أن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن عهد من الله، أو افتراء وتقوّل عليه، وبما أنه لم يحدث العهد من الله وهو الوحي والخبر الصادق، فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون حين تدعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.
وقد أكدت السّنّة دعواهم في النجاة من النار بعد أيام قليلة.
روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن الليث بن سعد، والحافظ بن مردويه والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شاة فيها سمّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجمعوا لي من كان من اليهود هنا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أبوكم؟ قالوا: فلان، قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت. ثم قال لهم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اخسؤوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا. ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟
قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرّك»
.

صفحة رقم 204

ليس الأمر أيها اليهود كما زعمتم أو تمنيتم واشتهيتم، بل أو بلى ستخلدون في نار جهنم بسبب ارتكاب المعاصي التي أحاطت بكم، كالكفر، وقتل الأنبياء بغير حق، وعصيان أوامر الله، والاسترسال في الأهواء والافتراءات. وقد علمنا أن بلى: لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق، ومعناه إبطاله وإنكاره. والكسب:
جلب النفع، واستعماله هنا في السيئة من باب التهكم. والسيئة: الفاحشة الموجبة للنار، والمراد بها هنا: الشرك بالله.
وسبب الخلود في النار: هو ما تضمنه القانون العام لكل الخلائق في شرع الله: أن من اقترف خطيئة غمرت جميع جوانبه من قلبه ولسانه وأعضائه، وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهو من أهل النار.
وأما من آمن (صدق) بالله ورسله واليوم الآخر، وعمل صالحا، فأدى الواجب، وترك الحرام، فهو من أهل الجنة. قال ابن عباس: «من آمن بما كفرتم، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة، خالدين فيها» يخبرهم أن الثواب بالخير، والشر مقيم على أهله أبدا، لا انقطاع له.
وكل من الجزاءين المذكورين: وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين، شبيه بقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ، وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء ٤/ ١٢٣- ١٢٤].
لكن من تاب من العصاة توبة نصوحا، فأقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم على ألا يعود لمثله في المستقبل، تبدل حاله من أهل النار إلى أهل الجنة.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل

صفحة رقم 205

قلبه. وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن:
كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين ٨٣/ ١٤] ».
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»
وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب لهم مثلا، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، فأنضجوا ما قذفوا فيها.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية (٧٩) والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدل وغيّر أو ابتدع في دين الله ما ليس منه، فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم،
وقد حذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمته، لما قد علم ما يكون في آخر الزمان، فقال: «ألا، إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة»
الحديث. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه، فيضلّوا به الناس.
وأبانت الآية (٧٩) أن كل عوض- وإن كثر- عن تحريف كتاب الله، لا بركة فيه ولا خير، فقد وصف الله تعالى ما يأخذه أحبار اليهود بالقلة إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم: ربعة أسمر، فجعلوه: آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النّبي الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبهه نعت هذا.
ودلت الآية (٨١) : بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ على أن

صفحة رقم 206
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية