
والسر في تشبيه القلوب بالحجارة دون غيرها من نحو الحديد والصّفر، أن كلا منهما يسيل بالإحماء بالنار بخلاف الحجر.
(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي إن هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس والحيوان والزرع بخروج الأنهار منها، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعه قليلة فتنبع منه العيون والآبار، وحينا تتأثر بالتردي والسقوط بلا منفعة للناس وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدى فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان.
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لكم بالمرصاد، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها، وهو يربّيكم بصنوف النقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٩]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)

المعنى الجملي
كان النبي ﷺ وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم فى تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدّق لما معهم.
فقصّ الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحلّ بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له: لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته إياك، فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحى، ومصاحبته إلى حيث يناجى ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه- ثم كان منهم أن حرّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهى كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرّفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدى موسي عليه السلام، فأحر بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهى القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى

السيف والسّنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان ثم ذكر حالا أخرى لهم هى أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيء الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقلّ أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب نخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين اتجاه ربح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشىء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان.
الإيضاح
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا، وهو أشد من الرجاء، أن يؤمنوا لكم، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه، من بعد ما عقلوه: أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم، وقوله: وهم يعلمون، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين، وفي هذين الوصفين نعى عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم.
وخلاصة المعنى- استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون، وليس هؤلاء بأحسن حالا من أولئك.
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد ﷺ قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.

(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟) قوله: فتح الله عليكم، أي بيّنه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد، وقوله: (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله: (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي في حكمه وكتابه، وقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم.
أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجىء مصدقا لما معهم كى يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم، من قبل أن ما حدّثوا به موافق لما في القرآن، ولولا أن محمدا نبىّ لما علم بهذا الذي حكاه عنهم.
(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي أيقول اللائمون ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي ﷺ ما كتموا. ويحرّفون من كتابهم ما حرّفوا؟
ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وودّ، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شىء علما، فلم لا يخشون بأسه، وهو المطّلع على الظاهر، والعالم بما يجول في الضمائر، والمجازى على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين فى الآخرة؟
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الأميون واحدهم أمي، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، أي إنه يكون كما ولدته أمه، ومنه
الحديث: «إنّا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب»،
والأمانى: واحدها أمنية وهى التلاوة كما قال كعب ابن زهير:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة | وآخره لاقى حمام المقادر |