
استبعاد إيمان اليهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
الإعراب:
أَنْ يُؤْمِنُوا في موضع نصب، لأن التقدير فيه: في أن يؤمنوا لكم. فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فنصبه. مِنْهُمْ إما في موضع رفع صفة لفريق، وجملة يَسْمَعُونَ خبر كان، وإما في موضع نصب خبر كان، ويسمعون: صفة لفريق. وَهُمْ يَعْلَمُونَ مبتدأ وخبر، في موضع نصب حال من ضمير «يحرّفون».
لِيُحَاجُّوكُمْ لام كي، تنصب الفعل بتقدير «أن».
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مرفوع وصف لأميين.
إِلَّا أَمانِيَّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس، لأن الأماني ليست من العلم. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي: وما هم إلا يظنون ومِنْهُمْ مبتدأ، وما بعده خبره. وإِلَّا أبطلت عمل إن.
البلاغة:
أَفَتَطْمَعُونَ الهمزة للاستفهام الإنكاري. وَهُمْ يَعْلَمُونَ تفيد الجملة الكمال في تقبيح صنيعهم، وهو تحريف التوراة عن قصد، لا عن جهل.
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ طباق بين لفظتي يُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ.

المفردات اللغوية:
فَرِيقٌ طائفة من أحبارهم كَلامَ اللَّهِ التوراة يُحَرِّفُونَهُ يغيرونه ويبدلونه، أو يؤولونه بالباطل عَقَلُوهُ فهموه وعرفوه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مفترون.
وَإِذا لَقُوا أي منافقوا اليهود وَإِذا خَلا رجع ومضى إليه، أو انفرد معه. فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حكم به أو قصه عليكم أو عرفكم في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم. لِيُحَاجُّوكُمْ ليخاصموكم ويجادلوكم، واللام للصيرورة عِنْدَ رَبِّكُمْ في الآخرة، أي يقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمهم بصدقه.
أَوَلا يَعْلَمُونَ الاستفهام للتقرير، والواو الداخل عليها للعطف، ويراد بالاستفهام التوبيخ أو التقريع.
أُمِّيُّونَ عوام جهلة بكتابهم أَمانِيَّ أكاذيب تلقوها من رؤسائهم، فاعتمدوها، وهي لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي. يَظُنُّونَ أي ما هم في جحود نبوة النّبي وغيره مما يختلقونه إلا يظنون ظنا ولا علم لهم.
سبب النزول:
قال ابن عباس ومقاتل: نزل قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ في السبعين الذين اختارهم موسى، ليذهبوا معه إلى الله تعالى، فلما ذهبوا معه، سمعوا كلام الله تعالى وهو يأمر وينهى، ثم رجعوا إلى قومهم، فأما الصادقون فأدّوا ما سمعوا. وقالت طائفة منهم: سمعنا الله من لفظ كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، ولا بأس.
وعند أكثر المفسرين: نزلت الآية في الذين غيروا آية الرجم وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم «١».
واختلف العلماء بماذا عرف موسى كلام الله، ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه.

فقيل: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر، وإنما هو كلام رب العالمين.
وقيل: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر.
وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله.
وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك دليلا على صدق الحال، وأن الذي يقول له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه ٢٠/ ١٢] هو الله جل وعز «١».
وسبب نزول الآية (٧٦) :
هو ما قاله مجاهد: قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر بهذا محمدا، ما خرج هذا إلا منكم، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، ليكون لهم حجة عليكم، فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا أن صاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أيحدث العرب بهذا، فإنكم كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم، فأنزل الله: وَإِذا لَقُوا الآية.
وقال السدي: نزلت في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يأتون المؤمنين من العرب، بما تحدثوا به، فقال بعضهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ

من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم «١».
التفسير والبيان:
حرص النّبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته على انضمام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلى دعوته والإيمان برسالته في مواجهة المشركين، لوجود جسور التقاء معهم من الإيمان بوجود الإله والتصديق بالأنبياء وبالبعث واليوم الآخر. وقد روي أنها نزلت في الأنصار الذين كانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوار ورضاعة، وكانوا يودون لو أسلموا، فأنزل الله: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ.
فجاءت هذه الآيات، في أثناء بيان قبائح اليهود، توضح خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ما بدد الآمال والأطماع في إيمان اليهود، لأن منهم جماعة- وهم فئة من الأحبار والرؤساء- كانوا يسمعون كلام الله، ثم يبدلونه أو يؤولونه بحسب أهوائهم وميولهم، وليس الحاضرون أحسن حالا من الغابرين، لأنهم ورثوا الاستكبار من أسلافهم، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة والواقع، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟! وسبب آخر يدعو إلى عدم إيمانهم هو أن منافقيهم إذا قابلوا المؤمنين قالوا:
نحن مؤمنون بالله وبالنبيّ كإيمانكم، إذ هذا النبي هو المبشر به عندنا، فنحن معكم، وإذا انفردوا مع بعضهم قالوا: كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا، وهم يحتجون عليكم بكلامكم، ويخاصمونكم به عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم؟ فيرد الله عليهم:
ألا يعلمون أن الله تعالى يعلم السر والعلن، ويعلم الغيب والشهادة، فسواء أعلنتم سرا أم أضمرتموه، فإن الله سيجازيكم على أعمالكم.

ثم ذكر الله تعالى هذا شأن علماء اليهود وأحبارهم، أما الأميون منهم، فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها، مثل القول بأنهم شعب الله المختار، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، وما هم في كل ذلك إلا واهمون ظانون ظنا لا صحة له.
فلا أمل في أيمانهم، ولا أسف على أمثالهم، فمن كانت هذه صفاته وقبائحه، فلا خير فيه، ولا أسف عليه.
والمراد بما فتح الله على اليهود: الإنعام بالشريعة والأحكام، والبشارة بالنبي عليه الصلاة والسّلام، شبّه الذي يعطى الشريعة بالمحصور في الصلاة يفتح عليه، فيخرج من الضيق. أو أن معنى بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم، ونصره. والمقصود بقوله عِنْدَ رَبِّكُمْ أن المحاجة في الآخرة، كما قال السيوطي، ورأى المحققون أنه بمعنى: في كتاب الله وحكمه أي أن ما تحدثونهم به من التوراة موافق لما في القرآن، فالمحاجة في الدنيا، فهو كقوله تعالى في أهل الإفك: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور ٢٤/ ١٣] أي في حكمه المبين في كتابه «١».
وأما الأماني: فهي الأكاذيب، وفسرها بعضهم بالقراءات، أي أنهم لا حظّ لهم من الكتاب إلا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل، فهو على حد: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة ٦٢/ ٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
التحريف والتبديل لكلام الله أشد الحرام، سواء أكان بالتأويل الفاسد، أم

بالتغيير والتبديل، وقد وقع النوعان من أحبار اليهود، وقد نعتهم الله تعالى بأنهم يبدلون ويحرفون، فقال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة ٢/ ٧٩] وكان للتحريف مظاهر متعددة، ففي عهد موسى عليه السّلام:
روي أن قوما من السبعين المختارين، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور، وما أمر به موسى وما نهي عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألا تفعلوا فلا بأس.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما، اتّباعا لأهوائهم.
وفي عهد محمد صلّى الله عليه وسلّم حرفوا نعت الرسول وصفته، وحرفوا آية الرجم، وقالوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران ٣/ ٧٥] وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا، وقالوا أيضا: لا يضرنا ذنب فنحن أحباء الله وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك «١».
ووقع التحريف بنوعيه أيضا في الإنجيل، كما وقع في التوراة، والدليل واضح وهو ضياع أصل كلا هذين الكتابين، وكتابتهما بأيدي العلماء بعد عشرات السنين، كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [النساء ٤/ ٤٦].
وحدث التحريف في القرآن بمعنى التأويل الباطل، من الجهلة أو الملاحدة، أما التحريف بإسقاط آية من القرآن، فلم يقع، لتعهد الله حفظ كتابه المبين في قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩].
وأرشدت الآية (٧٨) من سورة البقرة إلى بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، لأن معنى قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ: