
٤- إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ١ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) ﴾
شرح الكلمات:
ظلم النفس٢: تدسيتها بسيئة الجريمة.
﴿بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ : بجعلكم العجل الذي صاغه السامري من حلي نسائكم إلهاً عبدتموه.
البارئ: الخالق عز وجل.
﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ٣﴾ : أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من٤ عبدَه منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا فتاب عليهم بقبول توبتهم.
﴿نَرَى اللهَ جَهْرَةً ٥﴾ : نراه عياناً.
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
٢ أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومرتكب الذنب بدل أن يزكي نفسه بعمل صالح دساها بعمل سيء فكان بذلك واضعاً شيئاً في غير موضعه، إذ المطلوب من العبد تزكية نفسه لتتأهل للكمال والإسعاد، لا تدسيتها لتخيب وتخسر.
٣ قتل بعضهم بعضا: كان عقوبة لمن عبدوا العجل، ولمن لم يعبدوه؛ لأنهم ما غيروا المنكر وقد رأوه.
٤ قال بعضهم: قتل النفس هنا تذليلها بالطاعات وكفها عن الشهوات وليس بصحيح.
٥ أصل الجهر: الظهور ومنه: قرأ جهراً أي أي أظهر القراءة، وجهر مصدر جهر، وقرأ بفتح الهاء وإسكانها نحو زهرة، وزهرة ومعناه: علانية أو عياناً.

﴿الصَّاعِقَةُ﴾ : نار محرقة التي تكون مع السحب والأمطار والرعود.
﴿بَعَثْنَاكُمْ﴾ : أحييناكم١ بعد موتكم.
﴿الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ : المن: مادة لزجة حلوة كالعسل٢، والسلوى: طائر يقال له السماني.
الطيبات: الحلال.
المناسبة ومعنى الآيات:
لما ذكر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالباً إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله. ذكرهم هنا ببعض ذنوب أسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا، فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلهاً وعبادتهم له. وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى، وتركه هارون خليفة له فيهم، فصنع السامري لهم عجلاً من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، فأطاعوه أكثرهم وعبدوا العجل، فكانوا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبدَه فقتلوا منهم سبعين ألفاً، فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم، كما ذكرهم بحادثة أخرى وهي: إنه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بأمر الله تعالى منهم سبعين رجلاً من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل، وذهب بهم إلى جبل الطور ليعتذروا إلى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه، فأسمعهم قوله: ﴿إِنِّي أَنَا اللهُ﴾ لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيدٍ شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم وقتلهم أنفسهم، قالوا: لن نؤمن لك، أي لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة، وكان هذا منهم ذنباً عظيماً لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحداً واحداً وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى، وهي إكرامه لهم وإنعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن
٢ وفي الحديث الذي رواه مسلم: الكمأه من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين.

والسلوى١ أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ إشارة إلى أن محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيهم إذ قالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾. وما ظلمهم٢ في محنة التيه، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- عبادة المؤمن غير الله وهو يعلم أنها عبادة لغير الله تعالى تعتبر ردة منه٣، وشركاً.
٢- مشروعية قتال المرتدين، وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولكن بعد استتابته.
٣- علة الحياة كلها شكر الله تعالى٤ بعبادته وحده.
٤- الحلال، من المطاعم والمشارب وغيرها، ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله عز وجل.
﴿وَإِذْ٥ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
٢ وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ تقديم المفعول وهو أنفسهم على الفاعل وهو الضمير في يظلمون لإفادة القصر، وهو قصر ظلمهم على أنفسهم حيث لم يتجاوز إلى غيرهم لا موسى ولا ربه تعالى.
٣ بدليل أمر الله بني إسرائيل بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده لأنه في حكم المرتد، والمرتد يقتل لحديث الصحيح: "من بدل دينه فاقتلوه".
٤ دل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ﴾ أي أحييناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون، وأصرح قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ والعبادة هي الشكر.
٥ ذهب الشيخ محمد طاهر ابن عاشور، صاحب تفسير "التحرير والتنوير" إلى أن القائل لبني إسرائيل: ﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ..﴾ الآية. هو موسى عليه السلام وأن هذا الأمر كان في بداية أمرهم لما خرجوا من مصر، وأن الذين ظلموا منهم هم: عشرة رجال من اثنا عشر بعث بهم موسى عليه السلام جواسيس يكتشفون أمر العدو ويقدرون قوته قبل إعلان الحرب عليهم، فرجعوا وهم يهولون من شأن العدو وقوته، وينشرون الفزع والرعب في بني إسرائيل ما عدا اثنين منهم، وهما: يوشع ابن نون قريب موسى، وطالب بن بقتة، الذين ذكرا في سورة المائدة: ﴿قَالَ رَجُلانِ..﴾ الآية، وخالف في هذا جمهور المفسرين، وادعى الغلط لهم، وما حمله على ذلك سوى أن السياق ما زال مع موسى وقومه مع أن الله تعالى لم يذكر موسى بل قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث البخاري قال: قيل لبني إسرائيل ولم يقل قال موسى لبني إسرائيل، ونص الحديث: "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً قولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة". والأمر لهم حقيقة. هو الله تعالى على لسان يوشع، إذ هو الذي قاد الحملة ونصره الله، ودخل بيت المقدس، وأحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهدة.