
قوله تعالى: ﴿وَاعَدْنَا﴾. قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً، وقرأه الباقون: «واعَدنْا» بألف. واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْد والوعيد، على هذا وجَدْنَا القرآن، نحو: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٥] ﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ﴾ [الفتح: ٢٠] ﴿وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾ [إبراهيم: ٢٢] ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله﴾ [الأنفال: ٧]، وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً: «وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من اللهِ لموسى، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص» ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها. وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً: «قراءةُ العامَّة عندَنا: وَعَدْنا بغيرِ ألفٍ لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين». وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه. وقال مكي: «المواعدة أصلُها من اثنين، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو:
صفحة رقم 352
طارَقْتُ النَّعْلَ»، فجعل القراءتين بمعنىً واحد، والأولُ أحسنُ. ورجَّح قوم «واعدنا». وقال الكسائي: «وليس قولُ الله: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ﴾ [النور: ٥٥] من هذا البابِ في شيء؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ الموافاة، وليس من الوَعْد في شيء، وإنما هو من قولك: مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا، والفصيحُ في هذا» واعَدْنا «. وقال الزجاج:» واعَدْنا «بالألفِ جَيِّدٌ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة، فمِنَ الله وَعْدٌ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ، فجَرى مَجْرَى المواعدة». وقال مكي أيضاً: «والاختيارُ» واعَدْنا «بالألفِ، لأن بمعنى وَعَدْنَا، في أحدِ مَعْنَيَيْه، وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة».
و «وعدَ» يتعدَّى لاثنين، فموسى مفعولٌ أولُ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف، أي: تمامَ أربعين، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مجرى جَمْعِ المذكر السالم، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه:
٤٥٩ - وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني | وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ |
٤٦٠ - وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا | نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ |
والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما، وابن كثير وعاصم في رواية حَفْصٍ بالإِظهار، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو: اتَّخَذْتُ، والجمع نحو: اتَّخَذْتُم، وأتى في هذه الجملة ب «ثُمَّ» دلالةً على أنَّ الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ.
قوله: «مِنْ بعدِه» متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ يعودُ على موسى، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: مِنْ بعدِ انطلاقِه أو مُضِيِّهِ، وقال ابنُ عطية: «يعودُ على موسى [وقيل: على انطلاقِه للتكليمِ، وقيل: على الوَعْد، وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ، فإنَّ قولَه:» وقيل يعودُ على انطلاقِه «يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ مُتَصَوَّرٍ. صفحة رقم 355