
قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ الآية (٤٩) سورة البقرة.
أصل النجاء: طلب الخلاص، ويقال لمن عدا نجا، لكون العدو أحد أسباب التخلص، فإن الله تعالى جعل للحيوانات قوتين تزيل بهما الأذى، قوة بها تهرب مما يؤذيها، وقوة بها تدفع ما يؤذيها، فمن الحيوانات ما يختص بأحديهما، ومنها ما جعلتا جميعاً به، فإذاًَ: العدو أحد أسباب الخلاص، فصح أن يعبر عنه به، وقيل: " نجا فلان)، إذا ألقة ثوبه وذلك استعارة له، كما استعير إلقاء الثوب للعدو في نحو قولهم: " القى بزه " وخلع ثوبه، وعلى ذلك قوله:
ألقيت ليلة خُبث الرهط أرواقي
وسميت الربوة " نجوا " اعتباراً بأنه منجي من السيل وكثير من الآفات التي تكون في الوهاد، وكنى عن العذرة الملقاة بالنجو إما اعتباراً بأنه خلاص من الأذى، أو كناية عنه بالنجو، كما كنى عنه بالغائط ولما اعتقد في السر أنه خلاص من الوشاة والعداة سمي بنجوى، وبهذا النظر قال الشاعر:
ونجعل نجوانا نجاة من العدا...
والآل: قيل هو مقلوب عن الأهل، كالماء عن الموه، ويصغرُ على أهيَلْ، كما أن الماء مصغر على مُويْه، إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال: " آلُ فلان "، ولا يقال: آلُ مكة، وزمان كذا: هو اسم للشخص، ويصغر على " أوائل "، وهو قول الكسائي، ويستعمل فيمن اختص بالإنسان اختصاص ذاته به إما بقرابته قربته، أو بموالاة دينه، أو كالدينية، فقد أجرى الموالاة الدينية مجرى القرابة واللحمة حتى قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾،

وقال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، وقال في نوح وابنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾، والاختصاص المذكور قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، ولاختصاص الآل بما قلنا، قال تعالى: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وقال هذا القائل: أهل الدين من النبي - عليه السلام - ضربان: ضرب يتخصص منه بالعلم المتقن والعمل المحكم، فيقال لهم: آل النبي، وضرب يتخصص منه بالعمل على سبيل التقليد دون العلم المتقن، ويقال لهم أمة، فكلُّ آل النبي أمته، وليس كل أمته آلهُ، وقيل لجعفر بن محمد: إن ناساً يقولون: المسلمون كلهم آل النبي، فقال: كذبوا وصدقوا، قيل: فما معنى كذبوا وصدقوا؟ قال: كذبوا: أن الناي على ما هو عليه من التقصير في دينهم هم آل محمد، وصدقوا: أنهم آله إذا قاموا بشريطه شريعته، فمن ضيع الشريطة، فليس منه وإن قرب نسبه، ومن حافظ على شريطته فهو منه وإن بعد نسبه، والسومُ: أصله الذهاب في إبتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركب الذهاب والابتغاء فإنه جرى مجرى الذهاب، فقيل: " سام الإبل "، فهي سائمة إذا ذهبت في المرعى، و " سمته كذا "، كقولك نعيته كذا، ومنه السوم في البيع، فعدى تعديته والسوء: يتناول كل ما يسوء الإنسان من آفة وداء، ويقال: السوء والسوى، أي: نحو الحسن والحسنى، وعلى سبيل كراعية ذكر الفرج والنظر إليه، كنى عنه بالسوءة، وكذا كنى عن البرص بها، وسوء العذاب: أي شدة العذاب، والذبح أصله شق الأوداج، وقيل: ذبحت الفارة النافجة على الاستعارة، لما شبه ذلك الوعاء بفارة فسمي بها، والذباحة: كأنه يذبح بشدته وكونه في المذبح، وخصت سنا يكثر في الأدواء، نحو: خراجة تخصيص التذبيح دون الذبح تنبيهاً على كثرة ذلك منهم، والاستحياء: كالاستبقاء، وهو تحري طلب الحياة فيهن، وقيل: معناه: يبتغون ما في أرحام النساء مشتقاًَ من

الحي، أي الفرج، والبلاء أصله من قولهم: بلى الثوب بلى، وبلاءً، وقيل " بلوت فلان " أي أخبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، ولهذا قيل: " لبست فلاناً "، أي: خبرته، وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلى الجسم، وسمي التكليف بلاء من أوجه، الأول: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجة بلاء، والثاني: أن التكاليف اختبارات، وكذلك قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾، قال ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾، ونحو ذلك، والثالث: أنه لما كان اختبار الله تعالى لعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، صارت المنحة والمحنة جيمعاً بلاء، فالمحنة: مقتضية للصبر والمنحة: مقتضية للشكر، وكأن القيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر لما بيناه في كتاب: (شرف التصوف)، فصارت المنحة أعظم البلاء، وبهذا النظر قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه وكره الله وجهه: " من وسع عليه في دنياه، ولم يعلم أنه مكر به، فهو مخذوغٌ عن عقله " والرابع: أنه رب منحة تعقب محنة، ومحنة تقضي إلى منحة، ولهذا قيل: " رب مغبوظ بنعمة هي داؤه، ومرحوم لشدة هي شفاؤه "، فإذا: من النعمة ما هو نقمة " ولكون البلاء متناولاً للأمرين، قال تعالى، ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾، وقال: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، وقالوا " في الخير والشر معاً: بلاه " فإّذا أفردا قالوا [في الخير: ابلاؤه، وفي الشر بلاه] وقال تعالى: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا﴾، وأما قول الشاعر:
جزى الله بالإحسان ما فعلابكم...
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فمعناه: أعطاهما الله خيراً فيما يمنحهما به، وجعل لهما بدل المكروه محبوباً، فقوله: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ راجع إلى الأمرين إلى المنحة التي هي الإنجاء من آل فرعون المقتضية للشكر، وإلى المحنة التي هي ذبحهم واستحياؤهم للنساء المقتضية للصبر، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فإذا صح ذلك، فقول مجاهد وابن جريح: أنه أراد في إنجائكم منهم نعمة، نظر منها إلى مبدأ الآية، وهو قوله: ﴿أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وقول مقاتل: " أراد في قتل الأولاد واستحياء النساء شدة نحو قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾، نظر منه إلى منتهى الأية، وهو قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾، وكلا القولين صحيح، وقول السدي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أراد بقوله: " بلاء " أي نعمة أو نقمة تصريح أن الأمرين مرادان وليس قوله (أو) ههنا شكاً منه كما ظنه بعض المفسرين، وقال إن ذلك شك من السدي، بل ذلك رواية عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - تنبيهاً منه أن النعمة والنقمة في هذه الجملة حاصلتان، وكل واحد منهما موجود فيها، وفي الآية تذكير لهم بما أولاهم من النعم في إنقاذهم من آل فرعون [وما كانوا يسومونهم من العذاب، وكان الأصل فيما روي لآن فرعون] رأى في المنام، أو قال له الكهنة: سيولد في هذا العام مولود يذهب بملكك، فجعل على كل عشر من النساء رجلاً، فقال: انظروا إلى كل امرأة ولدت، فإن كان ذكراً، فاقتلوه، وإن كان أنثى فأبقوه، وكان ذلك أعظم للرزية كما قال الشعر:
ومن أعظم الرزء فيما أرى...
بقاء البنات وموت البنينا
وقيل كان ذبحهم للأبناء استخدامهم في الأعمال القذرة الجارية مجرى أعظم الذبحين القتل، والإهانة، قال: وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾، وفيها حث لنا على تذكر نعمه ومراعاتها واحدة واحدة، وتجديد الشكر لكل منها...