
نماذج من سوء أخلاق اليهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
الإعراب:
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في تَنْسَوْنَ.
وَإِنَّها الهاء تعود على الصلاة، وإنما قال: وَإِنَّها ولم يقل: وإنهما أي الصبر والصلاة، لأن العرب ربما تذكر اسمين، وتكنّي عن أحدهما، مثل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها ولم ينفقونهما، ومثل: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة ٦٢/ ١١] ولم يقل: إليهما.
إِلَيْهِ الضمير يعود إلى الله تعالى.
يَوْماً مفعول فيه ظرف زمان لفعل اتَّقُوا. ولا تَجْزِي وما بعدها من الجمل المنفية صفات ليوم، وفي كل جملة ضمير مقدر يعود على يوم، تقديره: فيه، أي لا تجزي فيه..
وهكذا. وتذكير فعل وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ مع أن الفاعل مؤنث لوجود الفاصل، وإذا وجد الفصل بين للفعل والفاعل، قوي التذكير.
البلاغة:
أَتَأْمُرُونَ الاستفهام للتوبيخ. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فيه تقريع وتبكيت. أَفَلا تَعْقِلُونَ استفهام إنكاري وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الترك.

ثم إن عطف وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ.. على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ من عطف الخاص على العام.
وَاتَّقُوا يَوْماً تنكير اليوم للتهويل، وتنكير النفس في نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ لإفادة العموم.
المفردات اللغوية:
«البر» الطاعة والخير والعمل الصالح وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها فلا تأمرونها به الْكِتابَ التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل. أَفَلا تَعْقِلُونَ سوء فعلكم فترجعوا.
وَاسْتَعِينُوا اطلبوا المعونة على أموركم بِالصَّبْرِ حبس النفس على ما تكره وَالصَّلاةِ قال القرطبي وغيره: خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السّلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «١» وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أي وإن الصلاة لشاقّة ثقيلة الْخاشِعِينَ الساكنين إلى الطاعة.
يَظُنُّونَ يعتقدون أو يوقنون مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ في الآخرة فيجازيهم.
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ بالشكر عليها بطاعتي فَضَّلْتُكُمْ أي آباءكم عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم. وَاتَّقُوا خافوا يَوْماً يوم القيامة. لا تَجْزِي تقضي وتؤدي نفس. عَدْلٌ فداء. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله.
سبب النزول:
أخرج الواحدي والثعلبي عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية (٤٤) في يهود المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به، وهذا الرجل، يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإن أمره حق، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه «٢».
(٢) أسباب النزول للواحدي: ص ١٣ [.....]

وقال السدّي: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيّرهم الله عز وجلّ «١».
التفسير والبيان:
بان مما سبق في سبب النزول أن الآيات نزلت في أهل الكتاب وعلى التخصيص الأحبار والرهبان، كانوا يأمرون الناس بالخير والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم، فهذا مدعاة العجب والاستغراب، فإن الآمر بالشيء هو القدوة، فعليه المبادرة إلى فعل ما أمر به غيره، وإلّا كان كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وفي هذا توبيخ وتأنيب شديد، فكيف يليق بكم يا أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمرون بما تأمرون به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه من وعيد على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؟ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم.
وهذا الخطاب، وإن كان لليهود من أهل الكتاب، فهو موجه أيضا لغيرهم، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وطريق العلاج لهذا المرض أن تؤمنوا حقا، وتستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء، على مرضاة الله بالصبر الحقيقي وهو إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة، وتستعينوا بالصلاة لترويض النفس على التزام جادة الاستقامة، فمن صبر على احتمال التكاليف، وصرف نفسه عن المعاصي، وناجى ربه في صلاته، وعقد الصلة مع الله فيها خمس مرات في اليوم، كان جديرا بنصح الآخرين، مدركا بعقله الواعي مخاطر الانحراف، ضامنا لنفسه النجاة، لأن الأمر بالمعروف واضح، وهو واجب على العالم، وأوجب منه أن

يبدأ الواعظ بفعله بنفسه، ولا يتخلف بشيء عمن أمرهم به، قال شعيب عليه السلام- فيما حكاه القرآن: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هود ١١/ ٨٨].
والتزام الصلاة أمر شاق إلا على من خشعت نفوسهم لله، وخافوا من شديد عقابه، وعمرت قلوبهم بالإيمان وصدقوا بلقاء الله وحسابه، فبادروا إلى الصلاة، لإراحة أنفسهم، وتطمين قلوبهم، وإراحة بالهم، وإزالة قلقهم، وهو
ما عبر عنه النّبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» «١».
والأصح أن المراد بالصلاة التي أمر بها اليهود وغيرهم هي الصلاة الإسلامية، بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها، ولأن الصلاة التي أمروا بها هي المشتملة على الركوع، كما في الآية السابقة، وصلاتهم لا ركوع فيها، كما بينا.
وعبر بالظن في قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا يشق عليه الصلاة، فكيف بمن يتيقنه؟! فهذا سبب آخر بعد نسيان أنفسهم وتلاوة الكتاب للتقريع والتوبيخ.
وفي مجالات الأوامر والترغيب في المأمورات يحسن التذكير بالنعم الإلهية، لذا كرر تعالى تذكير الكتابيين بالنعم التي أنعم بها على آبائهم وعليهم، وأنه فضلهم على غيرهم من العالم في زمانهم، وأنه جعل فيهم الأنبياء، والخطاب ليس موجها إلى الجماعة فقط، وإنما إلى كل فرد أيضا، لأن كل امرئ مسئول عن نفسه، فليخش كل إنسان يوما مليئا بالأهوال، لا منجاة فيه إلا بتقوى الله في السر والعلن، ولا فائدة فيه إلا لمن عمل لنفسه، فلا تقبل هناك شفاعة الشفعاء والوسطاء، ولا ينفع دفع البدل أو الفداء، ولا يمنع المقصرون من العذاب.
نص الحديث بكامله: «حبّب إلي من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

فقه الحياة أو الأحكام:
يستحق كل مقصر في واجبه العقاب واللوم، فقد كان التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر، وكان ذم اليهود لأنهم كانوا يأمرون بأعمال البر والطاعة ولا يعملون بها، ويزداد التقريع للعالم الذي لا يعمل بما علم، فليس من يعلم كمن لا يعلم، ولا يتقبل العقل السليم هذه الحال من أحد.
وإطاعة الأوامر الإلهية وعدم مخالفتها تتطلب الصبر، ومن صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، ومن أخص حالات الصبر: الصلاة، فالصلاة فيها سجن النفوس، وجوارح الإنسان فيها مقيدة بها عن جميع الشهوات، فكانت الصلاة أصعب على النفس، وكانت مكابدتها أشق. وتهون المصاعب كلها أمام الخاشعين المتواضعين المخبتين إلى الله، الموقنين بلقاء الله، المصدقين بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وليست أمور الآخرة مقيسة على أمور الدنيا، كما كان يتوهم اليهود وغيرهم من الأمم الوثنية، فليس في ميزان الإسلام وعدله طريق لتخليص المجرمين من العذاب بفداء أو بدل يدفع، أو بشفاعة تشفع، ولا ينفع في اليوم الآخر إلا مرضاة الله تعالى بالعمل الصالح، والإيمان المستقر في النفوس، المتجلي في أعمال الإنسان، والحكم إلى الله العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، كما قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٤- ٢٦].
والشفاعة المرفوضة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ: النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء ٢١/ ٢٨] والفاسق