عن مجاهد في قوله: أَوْفُوا بِعَهْدِي قَالَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ «١» لآية وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
أَوْفُوا لِي بِمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عن أبي العالية قَوْلِهِ: إِيَّايَ فَارْهَبُونِ قَالَ: فَاخْشَوْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ قَالَ: الْقُرْآنُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ قَالَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قَالَ: بِالْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أَيْ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: لَا تَأْخُذْ عَلَى مَا عَلَّمْتَ أَجْرًا، إِنَّمَا أَجْرُ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُلَمَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ قَالَ: لَا تَخْلِطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ قَالَ: لَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْآيَةَ، قَالَ: لَا تَلْبَسُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ قَالَ: كَتَمُوا مُحَمَّدًا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: الْحَقُّ: التَّوْرَاةُ، وَالْبَاطِلُ: الذي كتبوه بأيديهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَاشْتِقَاقِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ، وَهِيَ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْعَهْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، وَمِثْلُهَا الزَّكَاةُ. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، يُقَالُ آتَيْتُهُ: أَيْ أَعْطَيْتُهُ. والزكاة مأخوذة من الزكاء، وَهُوَ النَّمَاءُ، زَكَا الشَّيْءُ: إِذَا نَمَا وَزَادَ، وَرَجُلٌ زَكِيٌّ: أَيْ زَائِدُ الْخَيْرِ وَسُمِّيَ إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ زَكَاةً: أَيْ زِيَادَةً مَعَ أَنَّهُ نَقْصٌ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تُكْثِرُ بَرَكَتَهُ بِذَلِكَ، أَوْ تُكْثِرُ أَجْرَ صَاحِبِهِ وَقِيلَ: الزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّطْهِيرِ، كَمَا يُقَالُ: زَكَا فُلَانٌ: أَيْ طَهُرَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا قَدْ نَقَلَهَا الشَّرْعُ إِلَى مَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ هِيَ الْمُرَادَةُ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِبَسْطِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِالزَّكَاةِ هُنَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَةُ لِاقْتِرَانِهَا بِالصَّلَاةِ، وَقِيلَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ: الِانْحِنَاءُ، وَكُلُّ مُنْحَنٍ رَاكِعٌ، قَالَ لَبِيدٌ:
أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ | أَدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ |
وَقِيلَ الِانْحِنَاءُ يَعُمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَيُسْتَعَارُ الرُّكُوعُ أَيْضًا لِلِانْحِطَاطِ فِي الْمَنْزِلَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ «١» عَلَّكَ أَنْ | تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ |
وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقَى | وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثيابك تسطع |
لا همّ رَبِّ أَنْ يَكُونُوا «٢» دُونَكَا | يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا |
نَجَا سَالِمٌ والنفس منه بشدقه | ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا |
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ نُفُوسُنَا | وليست على غير الظّبات تسيل |
(٢). في البحر المحيط لأبي حيان «إن بكرا».
(٣). الزمر: ٤٢.
وَالنَّفْسُ: الْجَسَدُ، وَمِنْهُ:
نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا | أَبْيَاتَهُمْ تَأَمُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ |
وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَعْظَمِ تَقْرِيعٍ وَأَشَدِّ تَوْبِيخٍ وَأَبْلَغِ تَبْكِيتٍ: أَيْ كَيْفَ تَتْرُكُونَ الْبِرَّ الَّذِي تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ وَأَنْتُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِقُبْحِ هَذَا الْفِعْلِ وَشِدَّةِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، كَمَا تَرَوْنَهُ في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرؤونها مِنَ التَّوْرَاةِ. وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا وأصلها الاتباع، يقال: تلوته: إذا تبعته وَسُمِّيَ الْقَارِئُ تَالِيًا وَالْقِرَاءَةُ تِلَاوَةً لِأَنَّهُ يُتْبِعُ بَعْضَ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، عَلَى النَّسَقِ الَّذِي هُوَ عليه. قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ اسْتِفْهَامٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَشَدُّ، وَأَشَدُّ مَا قَرَّعَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بِالْعِلْمِ، فَاسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا أَمْرَهُمْ لِلنَّاسِ بِالْبِرِّ مَعَ نِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي قَامُوا بِهِ فِي الْمَجَامِعِ وَنَادَوْا بِهِ فِي الْمَجَالِسِ إِيهَامًا لِلنَّاسِ بِأَنَّهُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ مَا تَحَمَّلُوهُ مِنْ حُجَجِهِ، وَمُبَيِّنُونَ لِعِبَادِهِ مَا أَمَرَهُمْ بِبَيَانِهِ، وَمُوَصِّلُونَ إِلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَوْدَعَهُمْ وَائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُمْ أَتْرَكُ النَّاسِ لِذَلِكَ وَأَبْعَدُهُمْ مِنْ نَفْعِهِ وَأَزْهَدُهُمْ فِيهِ، ثُمَّ رَبَطَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى جَعَلَهَا مُبَيِّنَةً لِحَالِهِمْ وَكَاشِفَةً لِعَوَارِهِمْ وَهَاتِكَةً لِأَسْتَارِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ وَالْخَصْلَةَ الْفَظِيعَةَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةٍ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَمُلَازَمَةٍ لِتِلَاوَتِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
وَإِنَّمَا حَمَلَ التَّوْرَاةَ قَارِئُهَا | كَسْبَ الْفَوَائِدِ لَا حُبَّ التِّلَاوَاتِ |
حَبَسْتُهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
فَصَبَرَتْ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ |
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «١» وَلَيْسَ فِي هَذَا الصَّبْرِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ما ينفي ما تفيده الألف واللام
الدَّاخِلَةُ عَلَى الصَّبْرِ مِنَ الشُّمُولِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا جَمِيعُ مَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي رُجُوعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ فَقِيلَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ فَقَدْ يَجُوزُ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إِلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «١» إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا تَحْتَ الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الْأَسْ | وَدَ مَا لم يعاص كان جنونا |
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «٤» أَيِ ابْنَ مَرْيَمَ آيَةً وَأُمَّهُ آيَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ | فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ |
لِكُلِّ همّ من الهموم سعة | والصّبح والمسي لَا فَلَاحَ مَعَهْ |
(٢). التوبة: ٣٤.
(٣). الجمعة: ١١.
(٤). المؤمنون: ١٥٠.
(٥). الشورى: ١٣.
(٦). أقوت الدار: خلت من ساكنيها.
وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ؟ لَيْسَ الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْخَشِنِ وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَتُطَأْطِئُ الرَّأْسَ، لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، وَتَخْشَعَ لِلَّهِ فِي كُلِّ فَرْضٍ افْتُرِضَ عَلَيْكَ. انْتَهَى. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهِ: إِنَّهُ هَيْئَةٌ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْجَوَارِحِ سُكُونٌ وَتَوَاضُعٌ، وَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الْخَاشِعِينَ- مَعَ كَوْنِهِمْ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِوَظَائِفِ الْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الصلاة، وإتعابهم إِتْعَابًا عَظِيمًا فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُضُورِ وَالْخُضُوعِ- لِأَنَّهُمْ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَتَوَفُّرِ الْجَزَاءِ وَالظَّفَرِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ، تَسْهُلُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمَتَاعِبُ، وَيَتَذَلَّلُ لَهُمْ مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَصَاعِبِ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ لَذَّةً لَهُمْ خَالِصَةً وَرَاحَةً عِنْدِهِمْ مَحْضَةً، وَلِأَمْرٍ مَا هَانَ عَلَى قَوْمٍ مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ حَرِّ السُّيُوفِ عِنْدَ تَصَادُمِ الصُّفُوفِ، وَكَانَتِ الْأُمْنِيَّةُ عِنْدَهُمْ طَعْمَ الْمَنِيَّةِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا | عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي |
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظنّوا بألفي مدجّج | سراتهم في الفارسيّ المسرّد |
وَارْكَعُوا قَالَ: صَلُّوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ مُقَاتِلٍ فِي قَوْلِهِ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ قَالَ:
أَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَعُوا مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كُونُوا مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الْآيَةَ، قَالَ: أُولَئِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا فِيهِ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَهُودِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لِصِهْرِهِ وَلِذِي قَرَابَتِهِ وَلِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَضَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: اثْبُتْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا يَأْمُرُكَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ، يعنون محمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ قَالَ: بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رُسُلِي؟ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ صفحة رقم 94
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ».
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ:
يَا فُلَانُ مَا لَكَ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ منها عن جابر مرفوعا عن الْخَطِيبِ وَابْنِ النَّجَّارِ، وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْخَطِيبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَمَعْنَاهَا جَمِيعًا: أَنَّهُ يَطْلُعُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النار فيقولون لهم: بم دَخَلْتُمُ النَّارَ وَإِنَّمَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ بِتَعْلِيمِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَفْعَلُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْخَطِيبُ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَالْأَصْبِهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْخَطِيبُ فِي الِاقْتِضَاءِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْخَطِيبُ فِي الِاقْتِضَاءِ، عَنْ سُلَيْكٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «وَيْلٌ لِلَّذِي لَا يَعْلَمُ مَرَّةً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَلَّمَهُ، وَوَيْلٌ لِلَّذِي يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، قال: أو بلغت ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْتَضِحَ بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَافْعَلْ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: قَوْلُهُ عَزَّ وجلّ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «١» أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّانِي، قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ- كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ «٢» أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثالث، قال: قول العبد الصالح شعيب: ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ «٣» أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قَالَ: إِنَّهُمَا مَعُونَتَانِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَعِينُوا بِهِمَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّبْرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: فَصَبْرٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ». وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي مَدْحِ الصَّبْرِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَالْجَزَاءِ لِلصَّابِرِينَ، وَلَمْ نَذْكُرْهَا هُنَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي مُطْلَقِ الصَّبْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ هَاهُنَا مِنْهَا شَطْرًا صَالِحًا، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ. وأخرج
(٢). الصف: ٢- ٣.
(٣). هود: ٨٨.