
قولُه تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر﴾ : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم. و «أَمَرَ» يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَفُ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله:
٤٢٣ - أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به | فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ |
٤٢٤ - لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا | يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا |
٤٢٥ - أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه | وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ |
قوله: «وَتَنْسَوْن» داخلٌ في حَيِّز الإِنكار، وأصلُ تَنْسَوْن: تَنْسَيُون، فأُعِلَّ صفحة رقم 327

بحَذْفِ الياءِ سُكونها، وقد تقدَّم في ﴿اشتروا﴾ [البقرة: ١٦]، فوزنُه تَفْعون، والنِّسيانُ: ضدُّ الذِّكْر، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ، ومنه: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه، قال:
٤٢٦ - ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ | وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ |
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ [يونس: ٥١]، والنيَّةُ بها التأخيرُ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول: ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ. وزعم صفحة رقم 328

الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده، فيقدِّر هنا: أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون، وكذا: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْاْ﴾ [سبأ: ٩] أي: أَعَمُوا فلم يَرَوْا، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها. ومفعولُ «تَعْقِلون» غيرُ مرادٍ، لأنَّ المعنى: أفلا يكونُ منكم [عَقْلٌ]. وقيل: تقديرهُ: أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك.
والعَقْلُ: الإِدراكُ المانعُ من الخطأ، وأصلُه المَنْعُ: ومنه: العِقال، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى، قال علقمة:
٤٢٧ - عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ | كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ |
قوله: ﴿واستعينوا بالصبر﴾ هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل. وأصلُ «استعينوا» اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل صفحة رقم 329

به ما فُعِل في ﴿نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه. «وبالصبر» متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها، و «استعان» يتعدَّى بنفسِه نحو: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]. ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي: ملتبسينَ بالصبر، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ: استَعَنْتُ [الله واستعنْتُ بالله] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب. والصبرُ: الحَبْسُ على المكروه، ومنه: «قُتِل فلانٌ صبراً»، قال:
٤٢٨ - فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً | فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ |

عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ، وهذا ليسَ بشيء. وقيل: حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وتقديرُه: وإنه لكبيرٌ، نحو قوله:
٤٢٩ - إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ | وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً |
٤٣٠ - رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه | ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ |