آيات من القرآن الكريم

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ
ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ

[سورة البقرة (٢) : آية ٣٦]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها تَحْقِيقُهُ، فَأَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنْهَا وَلَفْظَةُ «عَنْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْفِ: ٨٢] قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنَ الزَّلَلِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ثَابِتَ الْقَدَمِ عَلَى الشَّيْءِ، فَيَزِلُّ عَنْهُ وَيَصِيرُ مُتَحَوِّلًا عَنْ ذَلِكَ الموضع، ومن قرأ فأزالهما فَهُوَ مِنَ الزَّوَالِ عَنِ الْمَكَانِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ أَزَلْتُكَ عَنْ كَذَا/ حَتَّى زِلْتَ عَنْهُ وَأَزْلَلْتُكَ حَتَّى زَلَلْتَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَيْ: حَوَّلْتُكَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ أَيِ اسْتَزَلَّهُمَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ زَلَّ فِي دِينِهِ إِذَا أَخْطَأَ وَأَزَلَّهُ غَيْرُهُ إِذَا سَبَّبَ لَهُ مَا يَزِلُّ مِنْ أَجْلِهِ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَضَبْطُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَثَانِيهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ التَّبْلِيغِ، وَثَالِثُهَا: مَا يَقَعُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ وَالْفُتْيَا، وَرَابِعُهَا: مَا يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ. أَمَّا اعْتِقَادُهُمُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ. وَقَالَتِ الْفَضِيلِيَّةُ مِنَ الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمْ قَدْ وَقَعَتْ مِنْهُمُ الذُّنُوبُ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ وَشِرْكٌ، فَلَا جَرَمَ قَالُوا بِوُقُوعِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ، وَأَجَازَتِ الْإِمَامِيَّةُ عَلَيْهِمْ إِظْهَارَ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهِمْ مَعْصُومِينَ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَإِلَّا لَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ بِالْأَدَاءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ عَمْدًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَهْوًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا، قَالُوا: لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُتْيَا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خَطَؤُهُمْ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ، وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَأَبَاهُ آخَرُونَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي أَفْعَالِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرَ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَشَوِيَّةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرَ لَكِنَّهُ يُجَوِّزُ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ إِلَّا مَا يُنَفِّرُ كَالْكَذِبِ وَالتَّطْفِيفِ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا بِصَغِيرَةٍ وَلَا بِكَبِيرَةٍ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الذَّنْبُ إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ ولكنهم مأخوذون بِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ أَقْوَى وَدَلَائِلَهُمْ أَكْثَرُ، وَأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ مِنَ التَّحَفُّظِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ الذَّنْبُ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا الصَّغِيرَةُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ وَالْخَطَأِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّافِضَةِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مَنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَقْتَ عِصْمَتِهِمْ وَقْتُ بُلُوغِهِمْ وَلَمْ يُجَوِّزُوا مِنْهُمُ ارْتِكَابَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقْتَ النُّبُوَّةِ، أَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَجَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ/ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الذَّنْبُ حَالَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا

صفحة رقم 455

الصَّغِيرَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَفْحَشَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، [الْأَحْزَابِ: ٣٠] وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ وَغَيْرُهُ يُحَدُّ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الْأُمَّةِ فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْفِسْقِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الْحُجُرَاتِ: ٦] لَكِنَّهُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا كَانَ أَقَلَّ حَالًا مِنْ عُدُولِ الْأُمَّةِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَّا أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَرَعَ هَذَا الْحُكْمَ وَذَاكَ، وَأَيْضًا فَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣]. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ يَجِبُ زَجْرُهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ إِيذَاؤُهُ مُحَرَّمًا لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٧]. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الاقتداء به فيها لقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: ٣١] فَيُفْضِي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ وَهُوَ محال، وإذا ثبت ذلك حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَقْبَحَ مِنْ نَبِيٍّ رَفَعَ اللَّهَ دَرَجَتَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى وَحْيِهِ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ يَسْمَعُ رَبَّهُ يُنَادِيهِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لِلَذَّتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى نَهْيِ رَبِّهِ وَلَا مُنْزَجِرٍ بِوَعِيدِهِ. هَذَا مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِالضَّرُورَةِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الْجِنِّ: ٢٣] وَلَا اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ لِقَوْلِهِ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨] وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَلَا لِلْعَذَابِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَا صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنْهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ لَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٤].
وَقَالَ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هُودٍ: ٨٨]، فَمَا لا يلق بِوَاحِدٍ مِنْ وُعَّاظِ الْأُمَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠]، وَلَفْظُ الْخَيْرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي وَتَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فَاعِلِينَ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَتَارِكِينَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ.
وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٧]، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الاستثناء فيقال: فلاناً مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ إِلَّا فِي الْفِعْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَخْيَارًا فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. وَقَالَ:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الْحَجِّ: ٧٥]، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ/ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣]. وَقَالَ فِي إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [الْبَقَرَةِ: ١٣٠]. وَقَالَ فِي مُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٤]. وَقَالَ: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص: ٤٥- ٤٧]. فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِالِاصْطِفَاءِ وَالْخَيْرِيَّةِ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ. عَاشِرُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْلِيسَ قَوْلَهُ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ

صفحة رقم 456

الْمُخْلَصِينَ
[ص: ٨٢- ٨٣]، فَاسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُغْوِيهِمُ الْمُخْلَصِينَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: ٤٦] وَقَالَ فِي يُوسُفَ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يُوسُفَ: ٢٤]، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَالْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ:
٢٠]، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ مَا اتَّبَعُوهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَقَدْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ أَنَّهُمْ مَا أَذْنَبُوا فَذَلِكَ الْفَرِيقُ إِمَّا الْأَنْبِياءُ أَوْ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَنْبِيَاءَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي النَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يُذْنِبُ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، فَيَكُونُ غَيْرُ النَّبِيِّ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ الذَّنْبَ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَقَالَ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْمُجَادَلَةِ: ١٩] وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْآخَرِ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْمُجَادَلَةِ: ٢٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَرْتَضِيهِ الشَّيْطَانُ، وَالَّذِي يَرْتَضِيهِ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَعْصِيَةُ، فَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الرَّسُولِ لَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَلَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَصَدَقَ عَلَى زُهَّادِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنَ الْأُمَّةِ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّسُولِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ مِنَ الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣]، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ عَنِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِتَرْكِ الذَّنْبِ فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧]. وَقَالَ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: ٦]، فَلَوْ صَدَرَتِ الْمَعْصِيَةُ عَنِ الرَّسُولِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨].
الرَّابِعَ عَشَرَ:
رُوِيَ أَنَّ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ شَهِدْتَ لِي» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصَدِّقُكَ عَلَى الْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْكَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ أَفَلَا أُصَدِّقُكَ فِي هَذَا الْقَدْرِ؟ فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ وَسَمَّاهُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ
وَلَوْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ جَائِزَةً عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَمَا جَازَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: قَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالْإِمَامُ مَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ النَّاسِ أَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فَلَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَمُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُضِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْعَهْدِ إِمَّا عَهْدُ النُّبُوَّةِ أَوْ عَهْدُ الْإِمَامَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَهْدَ النُّبُوَّةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ النُّبُوَّةُ لِلظَّالِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَهْدَ الإمامة وجب أن لا نثبت الْإِمَامَةُ لِلظَّالِمِينَ وَإِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْإِمَامَةُ لِلظَّالِمِينَ وَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ النُّبُوَّةُ لِلظَّالِمِينَ، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُؤْتَمُّ بِهِ وَيُقْتَدَى بِهِ. وَالْآيَةُ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ مذنباً، أما

صفحة رقم 457

الْمُخَالِفُ فَقَدْ تَمَسَّكَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِآيَاتٍ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَعَاقِدِهَا وَنُحِيلُ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ فَثَلَاثَةٌ، أَوَّلُهَا: تَمَسَّكُوا بِالطَّعْنِ فِي اعْتِقَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَافِ: ١٨٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ وَزَوْجَهَا الْمَخْلُوقَ مِنْهَا هِيَ حَوَّاءُ، فَهَذِهِ الْكِنَايَاتُ بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ إِلَيْهِمَا فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٠] يَقْتَضِي صُدُورَ الشِّرْكِ عَنْهُمَا، وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ: الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ وَالْمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَةً عَرَبِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَالضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا فَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَثَانِيهَا: قَالُوا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوَاكِبِ هَذَا رَبِّي، [الْأَنْعَامِ: ٧٧]، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠]، وَالْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَثَالِثُهَا: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يُونُسَ: ٩٤]، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَكٍّ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَلْبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَفْكَارِ الْمُسْتَعْقِبَةِ لِلشُّبَهَاتِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُزِيلُهَا بِالدَّلَائِلِ.
أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَابِ التَّبْلِيغِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْلَى: ٦، ٨] فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النِّسْيَانِ فِي الْوَحْيِ، الْجَوَابُ: لَيْسَ النَّهْيُ عَنِ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَاكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْوُسْعِ بَلْ عَنِ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢]، / وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الْجِنِّ: ٢٦- ٢٨]. قَالُوا: فَلَوْلَا الْخَوْفُ مِنْ وُقُوعِ التَّخْلِيطِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِظْهَارِ بِالرَّصَدِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ فَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ الرَّصْدُ الشَّيَاطِينَ عَنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ. أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْفُتْيَا فَثَلَاثَةٌ، أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٨]، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ فَادَاهَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَالِ: ٦٧]، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَإِلَّا لَمَا عُوتِبَ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣]، وَالْجَوَابُ عَنِ الْكُلِّ: أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.
أَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي الْأَفْعَالِ فَكَثِيرَةٌ، أَوَّلُهَا: قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَمَسَّكُوا بِهَا مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا وَالْعَاصِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ عَاصِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

صفحة رقم 458

وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْعَاصِيَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّصَّ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُعَاقَبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنِّ: ٢٣] فَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إِلَّا صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّمَسُّكِ بِقِصَّةِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ غَاوِيًا لقوله تعالى فَغَوى وَالْغَيُّ ضِدُّ الرُّشْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٦]، فَجَعَلَ الْغَيَّ مُقَابِلًا لِلرُّشْدِ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَائِبٌ وَالتَّائِبُ مُذْنِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ تَائِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] وَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ [طه: ١٢٢] وَإِنَّمَا قُلْنَا: التَّائِبُ مُذْنِبٌ لِأَنَّ التَّائِبَ هُوَ النَّادِمُ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ، وَالنَّادِمُ عَلَى فِعْلِ الذنب مخبر عن كونه فاعلًا للذنب، فَإِنْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ فَهُوَ مُذْنِبٌ بِالْكَذِبِ، وَإِنْ صَدَقَ فِيهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٢]، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الْأَعْرَافِ: ١٩]، وَارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَيْنُ الذَّنْبِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٣٥] وَهُوَ سَمَّى نَفْسَهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَالظَّالِمُ مَلْعُونٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨] وَمَنِ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ كَانَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَوْلَا مَغْفِرَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِلَّا لَكَانَ خَاسِرًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٣]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِزْلَالِهِ جَزَاءً عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ، ثُمَّ قَالُوا:
هَبْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْكَبِيرَةِ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الشَّيْءِ/ لَكِنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى الشَّيْءِ. وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ عَنِ الْوُجُوهِ السَّبْعَةِ عِنْدَنَا أَنْ نَقُولَ: كَلَامُكُمْ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ أَتَيْتُمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَالَ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إن آدم عليه السلام حالما صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الزَّلَّةُ مَا كَانَ نَبِيًّا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ من هذه الآيات.
ولنذكر هاهنا كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الزَّلَّةِ لِيَظْهَرَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى من قوله: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [البقرة: ٣٦] فَنَقُولُ لِنَفْرِضْ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ الْفِعْلُ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا أَوْ حَالَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وَمَثَّلُوهُ بِالصَّائِمِ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ يَسْتَغْرِقُهُ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ سَاهِيًا عَنِ الصَّوْمِ وَيَأْكُلُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ السَّهْوِ [لَا] عَنْ قَصْدٍ، لَا يُقَالُ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ، وَقَوْلَهُ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠- ٢١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا نَسِيَ النَّهْيَ حَالَ الْإِقْدَامِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَمَّدَ لِأَنَّهُ قَالَ لَمَّا أَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا خَرَجَ آدَمُ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الجنة، فحسسته فَنَادَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَفِرَارًا مِنِّي، فَقَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا كَانَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْدُوحَةٌ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنِّي وَعِزَّتِكَ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كَاذِبًا، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ مِنْهَا ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لَمَا عُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا

صفحة رقم 459

بِهِ لِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ»، فَلَمَّا عُوتِبَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ. لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ قَبِلَا مِنْ إِبْلِيسَ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَلَا صَدَّقَاهُ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ صَدَّقَاهُ لَكَانَتْ مَعْصِيَتُهُمَا فِي هَذَا التَّصْدِيقِ أَعْظَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، لَأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِمَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَدَعَاهُمَا إِلَى تَرْكِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَا فِيهِ كَوْنَ إِبْلِيسَ نَاصِحًا لَهُمَا وَأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَدْ غَشَّهُمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُعَاتَبَةُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ وَأَيْضًا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِتَمَرُّدِ إِبْلِيسَ عَنِ السُّجُودِ وَكَوْنِهِ مُبْغِضًا لَهُ وَحَاسِدًا لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنَّ يَقْبَلَ قَوْلَ عَدُوِّهِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمَا أَقْدَمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ عَالِمًا بِعَدَاوَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧]. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ بِالْآحَادِ، فَكَيْفَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ؟ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْعِتَابَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى تَرْكِ/ التَّحَفُّظِ مِنْ أَسْبَابِ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السَّهْوِ مَوْضُوعٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِهِ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لِعِظَمِ خَطَرِهِمْ ومثلوه بقوله تعالى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: ٣٢]، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَابِ: ٣٠].
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ».
وَقَالَ أَيْضًا: «إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوَعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ»،
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ»، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ. فَهَذَا فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ حَوَّاءَ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّكْرِ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ سِوَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا الشَّجَرَةَ عَلَى الْبُرِّ، كَانَ مَأْذُونًا فِي تَنَاوُلِ الْخَمْرِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يُسْكِرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ خَمْرِ الْجَنَّةِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: ٤٧]. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَامِدًا فَهَهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا القول وعلته.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً مَعَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نبياً، وقد عرفت فساد هذا الْقَوْلُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَمْدًا، لَكِنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَجَلِ وَالْفَزَعِ وَالْإِشْفَاقِ مَا صَيَّرَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَمْدًا وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَالذَّمِّ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَا يَصِحُّ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْلِهِ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥]، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَمْدِيَّةَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ بِسَبَبِ اجْتِهَادٍ أَخْطَأَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الذَّنْبِ كَبِيرَةً، بَيَانُ الِاجْتِهَادِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَفْظُ هذِهِ قَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى الشَّخْصِ، وَقَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى النَّوْعِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ حَرِيرًا وَذَهَبًا بِيَدِهِ وَقَالَ: «هَذَانِ حِلٌّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهِمْ»،
وَأَرَادَ بِهِ نَوْعَهُمَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة

صفحة رقم 460

والسلام توضأ مرة مَرَّةً وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ»
وَأَرَادَ نَوْعَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: ٣٥] [الأعراف: ١٩] ظَنَّ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ، فَتَرَكَهَا وَتَنَاوَلَ مِنْ شَجَرَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلِمَةِ هذِهِ كَانَ النَّوْعَ لَا الشَّخْصَ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ، إِذَا كَانَ خَطَأً لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ وَاللَّعْنِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَغِيرَةً مَغْفُورَةً كَمَا فِي شَرْعِنَا، فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ هَذَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْحَاضِرِ. وَالشَّيْءُ الْحَاضِرُ لَا يَكُونُ إِلَّا شَيْئًا مُعَيَّنًا، فَكَلِمَةُ هَذَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ/ الْمُعَيَّنِ فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى النَّوْعِ، فَذَاكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَكَانَ مَا عَدَاهُ خَارِجًا عَنِ النَّهْيِ لَا مَحَالَةَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُجْتَهِدُ مُكَلَّفٌ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَ لَفْظَ هَذَا عَلَى الْمُعَيَّنِ كَانَ قَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُهُ عَلَى النَّوْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَأَيَّدٌ بِأَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ قوله: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [البقرة: ٣٥] أَفَادَ الْإِذْنَ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حِلَّ الِانْتِفَاعِ بِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَالدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِسَبَبِ هَذَا عِتَابًا وَأَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يُوجِبُ أَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا لَا مُخْطِئًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ فَسَادُ هَذَا التَّأْوِيلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. هَبْ أَنَّ لَفْظَ هَذَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشَّخْصِ وَالنَّوْعِ، وَلَكِنْ هَلْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّوْعُ دُونَ الشَّخْصِ أَوْ مَا فَعَلَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْبَيَانِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِالذَّنْبِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي مَعْرِفَتِهِ بَلْ عَرَفَهُ فَقَدْ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّوْعُ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ يَكُونُ إِقْدَامًا عَلَى الذَّنْبِ قَصْدًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِقْدَامٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعْصِيَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ كَانَ الْخَطَأُ فِيهَا كَبِيرًا وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الظَّنِّيَّاتِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخَطَأُ فِيهَا أَصْلًا، وَإِنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا مَعْذُورٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْخَطَأِ سَبَبًا لِأَنْ نُزِعَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَاسُهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّخْصِ لَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ قَدْ قَرَنَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّوْعُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي:
هُوَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَلَّهُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، أو يقال: إنه عرف ذلك لا دليل فِي وَقْتِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَيْنِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ غَفَلَ عَنْهُ لِأَنَّ
فِي الْخَبَرِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ فِي الْجَنَّةِ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ ثُمَّ أُخْرِجَ.
والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة هاهنا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَمَسَّكُوا بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَّرَ فِي مَعْرِفَةِ تِلْكَ الدَّلَالَةِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَرَفَهَا/ لَكِنَّهُ

صفحة رقم 461

قَدْ نَسِيَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥]، وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ:
كَانَتِ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَسِيَهَا صَارَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي أَنْ لَا يَصِيرَ الذَّنْبُ كَبِيرًا أَوْ يُقَالَ: كَانَتْ ظَنِّيَّةً إِلَّا أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى خَطَأِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَكَمَا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَخْصُوصٌ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي بَابِ التَّشْدِيدَاتِ وَالتَّخْفِيفَاتِ بِمَا لَا يَثْبُتُ في حق الأمة، فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وَنَهَاهُمَا مَعًا فَظَنَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ أَنْ يَقْرَبَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقْرَبا نَهْيٌ لَهُمَا عَلَى الْجَمْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّهْيِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ حُصُولُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، فَلَعَلَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَيْفَ تَمَكَّنَ إِبْلِيسُ مِنْ وَسْوَسَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ خَارِجَ الْجَنَّةِ وَآدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَوْلُ الْقُصَّاصِ وَهُوَ الَّذِي رَوَوْهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فَأَتَى الْحَيَّةَ وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ كَأَنَّهَا الْبُخْتِيَّةُ، وَهِيَ كَأَحْسَنِ الدَّوَابِّ بعد ما عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَمَا قَبِلَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فَابْتَلَعَتْهُ الْحَيَّةُ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ خُفْيَةً مِنَ الْخَزَنَةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَيَّةُ الْجَنَّةَ خَرَجَ إِبْلِيسُ مِنْ فَمِهَا وَاشْتَغَلَ بِالْوَسْوَسَةِ. فَلَا جَرَمَ لُعِنَتِ الْحَيَّةُ وَسَقَطَتْ قَوَائِمُهَا وَصَارَتْ تَمْشِي عَلَى بَطْنِهَا، وَجُعِلَ رِزْقُهَا فِي التُّرَابِ، وَصَارَتْ عَدُوًّا لِبَنِي آدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الدُّخُولِ فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَيَّةً ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْحَيَّةِ فَلِمَ عُوقِبَتِ الْحَيَّةُ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ وَلَا مُكَلَّفَةٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقَلُّ فَسَادًا مِنَ الْأَوَّلِ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَعَلَّهُمَا كَانَا يَخْرُجَانِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَإِبْلِيسَ كان بقرب الباب ويوسوس إليهما، ورابعها: وهو قَوْلُ الْحَسَنِ: أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَأَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَلَامٌ خَفِيٌّ وَالْكَلَامُ الْخَفِيُّ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ بَاشَرَ خِطَابَهُمَا أَوْ يُقَالُ إِنَّهُ أَوْصَلَ الْوَسْوَسَةَ إِلَيْهِمَا عَلَى لِسَانِ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢١]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَافِ: ٢٢]. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا يَعْرِفَانِهِ وَيَعْرِفَانِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، فَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَقْبَلَا قَوْلَهُ وَأَنْ يَلْتَفِتَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرُ للوسوسة من بعض أتباع إبليس. بقي هاهنا سُؤَالَانِ، السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: / أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَضَافَ هَذَا الْإِزْلَالَ إِلَى إِبْلِيسَ فَلِمَ عَاتَبَهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ؟ قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا أَنَّهُمَا عِنْدَ وَسْوَسَتِهِ أَتَيَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٦]. فَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إِبْلِيسَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢]، هَذَا مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَمَعَ التَّسَاوِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ مَصْدَرًا لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَالدَّاعِي عِبَارَةٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ أو

صفحة رقم 462

اعْتِقَادٍ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِسَبَبٍ مُنَبِّهٍ نَبَّهَ عَلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ مُضَافًا إِلَى ذَلِكَ لِمَا لِأَجْلِهِ صَارَ الْفَاعِلُ بِالْقُوَّةِ فَاعِلًا بِالْفِعْلِ، فلهذا المعنى انضاف الفعل هاهنا إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إِنَّ زَلَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَبْ أَنَّهَا كَانَتْ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، فَمَعْصِيَةُ إِبْلِيسَ حصلت بوسوسة من! وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلِ الدَّاعِي لَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ وَأَنَّ الدَّوَاعِيَ وَإِنْ تَرَتَّبَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا إِلَى مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥]. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ، الْجَوَابُ: أَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠]، فَلَمْ يَقْبَلَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا قَالَ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢١]، فَلَمْ يُصَدِّقَاهُ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ شَغَلَهُمَا بِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْمُبَاحَةِ حَتَّى صَارَا مُسْتَغْرِقَيْنِ فِيهِ فَحَصَلَ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِهِمَا فِيهِ نِسْيَانُ النَّهْيِ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَصَلَ مَا حَصَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ كَيْفَ كَانَتْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَنْ قَالَ إِنَّ جَنَّةَ آدَمَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَسَّرَ الْهُبُوطَ بِالنُّزُولِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ فَسَّرَهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: ٦١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا مُخَاطَبَيْنِ بِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِيهِ أَيْضًا قَالُوا لِأَنَّ إِبْلِيسَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أَيْ فَأَزَلَّهُمَا وَقُلْنَا لَهُمُ اهْبِطُوا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَهَذَا تَعْرِيفٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا كَمَا عَرَّفَهُمَا ذَلِكَ قَبْلَ الأكل من الشجرة فقال: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧]، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَبَى مِنَ السُّجُودِ صَارَ كَافِرًا/ وأخرج من الجنة وقيل لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الْأَعْرَافِ: ١٣]، وَقَالَ أَيْضًا: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص: ٧٧، الْحِجْرِ: ٣٤]، وَإِنَّمَا أُهْبِطَ مِنْهَا لِأَجْلِ تَكَبُّرِهِ، فَزَلَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهُبُوطِ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ هُبُوطُ إِبْلِيسَ قَبْلَ ذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا، مُتَنَاوِلًا لَهُ؟
قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَعَلَّهُ عَادَ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً أُخْرَى لِأَجْلِ أَنْ يُوَسْوِسَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَحِينَ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ فِي الْجَنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: اهْبِطا [طه: ١٢٣]، فَلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ وَاجْتَمَعَ إِبْلِيسُ مَعَهُمَا خَارِجَ الْجَنَّةِ أَمَرَ الْكُلَّ فَقَالَ: اهْبِطُوا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ قَالَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فِي وَقْتٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ هَذَا الْإِجْمَاعَ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ قَدْ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: ٤١]، وَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْلِ: ٢١]. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْإِنْسِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْإِنْسُ كُلُّهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ

صفحة رقم 463

عَدُوٌّ
... اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً [البقرة: ٣٦، ٣٨]، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٨، ٣٩]. وَهَذَا حُكْمٌ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَعْنَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُهُمُ الْخِطَابُ؟ أَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ عَلَى قَوْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطُوا أَمْرٌ أَوْ إِبَاحَةٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِأَنَّ مُفَارَقَةَ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ الْمَعِيشَةُ فِيهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ وَالْكَدِّ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَا يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِقَابًا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَظِيمِ؟ فَإِنْ قِيلَ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْحُدُودِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ إِنَّهَا عُقُوبَاتٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ، قُلْنَا: أَمَّا الْحُدُودُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ بِالْمَحْدُودِ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِقَابًا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُصِرًّا، وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَإِنَّمَا يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إِلَّا مَعَ الْمَأْثَمِ. فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً مَعَ كَوْنِهَا تَعْرِيضَاتٍ لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ فَلَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، أَمْرٌ بِالْهُبُوطِ وَلَيْسَ أَمْرًا بِالْعَدَاوَةِ، لِأَنَّ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ وَاخْتِدَاعَهُ إِيَّاهُمَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ وَعَدَاوَتَهُ لِذُرِّيَّتِهِمَا بِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، فَأَمَّا عَدَاوَةُ آدَمَ لِإِبْلِيسَ/ فَإِنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦] وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: ٢٧] إِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ اهْبِطُوا مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُسْتَقَرُّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
[الْقِيَامَةِ: ١٢]، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَكَانِ الَّذِي يُسْتَقَرُّ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الْفُرْقَانِ: ٢٤]، وَقَالَ تَعَالَى: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الْأَنْعَامِ: ٩٨] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَكْثَرُونَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [الْبَقَرَةِ: ٣٦] [الْأَعْرَافِ: ٢٤]، عَلَى الْمَكَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مُسْتَقَرُّكُمْ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ هُوَ الْقَبْرُ، أَيْ قُبُورُكُمْ تَكُونُونَ فِيهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَتَاعَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحَالِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِهْبَاطِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَالَ الْحَيَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الْأَعْرَافِ: ٢٤، ٢٥]، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِيها تَحْيَوْنَ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحِينِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُمْتَدُّ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ حِينٍ إِذَا بَعُدَتْ مُشَاهَدَتُهُ لَهُ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ مَعَ قُرْبِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ أَعْمَارُ النَّاسِ طَوِيلَةً وَآجَالُهُمْ عَنْ أَوَائِلِ حُدُوثِهِمْ مُتَبَاعِدَةً جَازَ أَنْ يَقُولَ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.

صفحة رقم 464
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية