ذلك دالا على ولايته، لأن العلم بأن الواحد منا وليّ لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا، لم يمكنّا أن نقطع أنه ولي الله تعالى، لأن الولي لله تعالى: من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان «١».
آدم وحواء في الجنة وموقف الشيطان منهما
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
الإعراب:
أَنْتَ تأكيد للضمير المستتر ليعطف عليه. رَغَداً منصوب لأنه صفة مصدر محذوف، تقديره أكلا رغدا، أو منصوب على الحال. فَتَكُونا حذفت النون إما للنصب بتقدير «أن» لأنه جواب النهي، أو يكون حذفها للجزم بالعطف على وَلا تَقْرَبا.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ آدم: فاعل، وكلمات: مفعول به.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في اهْبِطُوا
على تقدير حذف الواو، أي قلنا: اهبطوا وبعضكم لبعض عدو. ويجوز أن تكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
فَإِمَّا.. أصلها «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» للتأكيد، وتسمى المسلّطة، لأنها سلطت نون التوكيد على الفعل بعدها. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ من: شرطية مبنية لأنها تضمنت معنى الشرط، في محل رفع مبتدأ، وتَبِعَ خبره، وهو في موضع جزم «بمن» الشرطية.
وهُدايَ مفعول به. وكرر قوله: قُلْنَا اهْبِطُوا للتأكيد، ولما نيط به من زيادة قوله:
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. والأمر بالهبوط من الجنة إلى الأرض موجه لآدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم.
هُمْ فِيها خالِدُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من «أصحاب أو النار» لعود الضميرين إليهما. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يكون حالا من النار، لأن الحال لا تقع حالا من المضاف إليه، وأجازه الآخرون، لأن لام الملك مقدرة مع المضاف إليه.
البلاغة:
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي الأكل من ثمارها، فيه تعليق النهي بالقرب منها لقصد المبالغة في النهي عن الأكل.
مِمَّا كانا فِيهِ إبهام يفيد كثرة الخيرات التي لا توصف في الجنة.
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة، أي قابل التوبة بكثرة، واسع الرحمة.
المفردات اللغوية:
رَغَداً أكلا واسعا طيبا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر عليه. هذِهِ الشَّجَرَةَ أي بالأكل منها، وهي الحنطة أو الكروم أو غيرهما فَتَكُونا فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ العاصين.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أوقعهما في المخالفة من الزلة وهي السقوط اهْبِطُوا انزلوا مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار. وَمَتاعٌ ما يتمتع به من أنواع الطعام والشراب واللباس ونحوها.
فَتَلَقَّى أخذ وقبل وألهم فَتابَ التوبة: الرجوع، فإذا عدّيت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإذا عديت بعلى، كان معناها قبول التوبة.
فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ آمن بي وعمل بطاعتي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.
بِآياتِنا كتبنا. أَصْحابُ النَّارِ أهلها. خالِدُونَ ملازمون لها، ماكثون فيها أبدا، لا يفنون ولا يخرجون منها.
المناسبة:
تستمر الآيات في بيان أنواع التكريم الإلهي للإنسان، وهذا التكريم هنا هو المقام في الجنة في بدء الخليقة، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية إقامته في الأرض، وتكليفه القيام برسالة مهمة هي تعمير الكون، وإظهار مزية الإنسان في مجاهدة الشيطان وأهوائه.
وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، وأنهم إذا كلفوا بشيء بالرغم من تكريمهم غاية الإكرام قد لا يمتثلون.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد لقومك أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها حيث شاءا، والأكل منهما أكلا هنيئا لا عناء فيه، أو واسعا لا حد له، ونهاهما عن الأكل من شجرة معينة، فالأكل منها ظلم لأنفسهما، ولكن الشيطان عدوهما أزلهما عنها، فأخرجهما من ذلك النعيم، بعد أن أغواهما بالأكل من الشجرة. أو أبعدهما وحوّلهما من الجنة، قائلا: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٢٠- ٢١] فتغلبت عليهما وساوس الشيطان، وخرجا من الجنة إلى الأرض، وشقاء الدنيا، وقد نشأت العداوة بين البشر والشيطان، فإبليس عدو لآدم وزوجه حواء ولذريتهما، والبشر أعداء له، فاحذروا إغواءه: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر ٣٥/ ٦] فألهم الله آدم كلمات، فعمل بها هو وزوجته وتابا توبة
خالصة، والكلمات هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف ٧/ ٢٣] وتقبل الله التوبة، لأنه كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة بالعباد، وأصبح الناس في الأرض صنفين: صنف المؤمنين بالله العاملين بطاعته، فهؤلاء آمنون في جنان الله في الآخرة، وصنف الكافرين المكذبين بما أنزل الله في كتبه، والجاحدين لرسالات الأنبياء، فهؤلاء مخلدون في نار جهنم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تثير هذه الآيات مشكلات عديدة هي ما يأتي:
أولا- زوجة آدم في قوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: أثار المفسرون كيفية خلق حواء، فقالوا: إنها خلقت من ضلع آدم، أخذا بظاهر قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء ٤/ ١] وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف ٧/ ١٨٩]، وعملا
بحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج»
وفي رواية لمسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، لن تستقيم لك على طريقة واحدة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها، وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»
قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج، وهو الضلع «١».
وأجيب عن الآيتين «٢» : بأن كثيرا من المفسرين كالرازي قالوا: إن المراد بقوله «منها» أي من جنسها، ليوافق قوله في سورة [الروم ٣٠/ ٢١] :
(٢) تفسير المراغي: ١/ ٩٣
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً والمراد أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.
وأما الحديث فجاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، فهو على حدّ قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء ٢١/ ٣٧].
هذا وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة. ونقل عن السدي: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة.
ثانيا- الجنة: وهي في اللغة البستان. اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها آدم، هي في السماء أم في الأرض «١» ؟ قال الأكثرون: إنها التي في السماء، وهي دار الخلد والثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في السورة.
وقالت المعتزلة والقدرية: إنها جنة في الأرض غير جنة الخلد، خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، في أرض عدن، أو بفلسطين، أو بين فارس وكرمان. وهو رأي أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي ومذهب السلف. ودليلهم أنها لو كانت جنة الخلد، لما وصل إليها إبليس، فإن الله يقول: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور ٥٢/ ٢٣]، وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ ٧٨/ ٣٥]، وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة ٥٦/ ٢٥- ٢٦]، وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر ١٥/ ٤٨]، وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها، قد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء
بمعصيتهما. وكيف يطلب آدم، مع مكانه من الله وكمال عقله، شجرة الخلد، وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى. ورجح الألوسي هذا الرأي.
ورد القرطبي على هذه الأدلة: بأن الجنة المعرفة بالألف واللام لا يفهم غيرها في تعارف الناس، ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم. وأما أوصاف الجنة المذكورة في الآيات التي احتجوا بها، فهي بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة. ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. والملائكة يدخلونها ويخرجون منها، وقد دخلها النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء ثم خرج منها، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي.
وأجمع أهل السنة على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام.
وكيف يجوز على آدم، وهو في كمال عقله، أن يطلب شجرة الخلد، وهو في دار الفناء؟! الأمر جائز تطلّعا إلى الأفضل والأكمل، كما نتطلع الآن في الدنيا إلى الخلود في الجنة.
ثالثا- الشجرة: اختلف العلماء في تعيين الشجرة التي نهي عنها آدم فأكل منها «١». فقال جماعة: هي الكرم، ولذا حرمت علينا الخمر، وقال آخرون:
هي السّنبلة، وقيل: هي شجرة التين. والصواب كما قال القرطبي: أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة، فخالف هو إليها، وعصى في الأكل منها.
واختلفوا أيضا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب، وهو قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ٣٥]، فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها، فلم يتأوّلا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر، أي أنهما ظنّا أن المراد عين شجرة مخصوصة، وكان المراد الجنس. وهو
قول حسن كما قال القرطبي ورجحه الطبري قبله.
ويقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء، بإغواء إبليس إياها.
رابعا- عصيان آدم ثم توبته: قال جمهور الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: الأنبياء معصومون من صغائر الذنوب وكبائرها معا، لأنّا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم «١».
وبناء عليه، أجيب عن خطيئة آدم التي كانت من الصغائر لا من الكبائر، بأنها صدرت منه قبل النبوة، والعصمة عن المخالفة إنما تكون بعد النّبوة.
أو بأن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمّي عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة، أو أن ذلك- على طريقة السلف- من المتشابه كسائر ما ورد في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره «٢». والراجح لدي أن هذه المخالفة وقعت نسيانا وسهوا، كما قال جلّ وعزّ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه ٢٠/ ١١٥].
وتوبة آدم كانت بقوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف ٧/ ٢٣]، وهذا هو المروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ أحبّ الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: «سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
(٢) تفسير الكشاف: ١/ ٢١٢، تفسير الرازي: ٣/ ٧، تفسير المراغي: ١/ ٩٤، تفسير المنار: ١/ ٢٨١
واكتفى القرآن بذكر توبة آدم دون توبة حواء، لأنها كانت تبعا له، كما طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسّنة لذلك. وقد ذكرها في آية أخرى:
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية السابقة «١».
ولا تكون التوبة مقبولة من الإنسان إلا بأربعة أمور: الندم على ما كان، وترك الذنب الآن، والعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وردّ مظالم العباد وإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار إليه باللسان «٢».
خامسا- دخول إبليس الجنة: تساءل العلماء: كيف تمكّن إبليس من وسوسة آدم بعد أن طرده الله من الجنة بقوله: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص ٣٨/ ٧٧]، فكان خارج الجنة، وآدم في الجنة؟ وأجيب بأجوبة، منها: أنه يجوز أن يمنع إبليس دخول الجنة على جهة التكريم، كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة، ابتلاء لآدم وحواء. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة ولم يصل إلى آدم بعد ما أخرج منها، وإنما بوسواسه الذي أعطاه الله تعالى، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
سادسا- في قوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة ٢/ ٣٥] : إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة من الله تعالى، خلافا للقدرية وغيرهم القائلين: إن العبد يخلق أفعال نفسه. ودلّت الآية (٣٨) على أن من جاءه الهدى على لسان رسول واتبعه، فقد فاز بالنجاة في الآخرة، ودلت الآية (٣٩) على أن الذين لم يتبعوا هدى الله- وهم الذين كفروا بآيات الله اعتقادا وكذبوا بها لسانا- جزاؤهم الخلود في نار جهنم بسبب جحودهم بها، وإنكارهم إياها، اتباعا لوسوسة الشيطان. «٣»
(٢) تفسير الرازي: ٣/ ٢٠، تفسير المراغي: ١/ ٩٢
(٣) الكشاف: ١/ ٢١١، القرطبي: ١/ ٣١٣، الرازي: ٣/ ١٥
سابعا- الملائكة: الملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا نعلم حقيقتهم، واعتقاد وجودهم واجب شرعا، لإخبار القرآن والنّبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك. وهم مجبولون على الطاعة، منزهون عن المعصية، وهل هم أفضل من البشر؟
اختلف العلماء في شأنهم، فرأى بعضهم أنهم أفضل من البشر، لقوله تعالى:
قالَ: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف ٧/ ٢٠]، وقوله تعالى عن صواحب يوسف: وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ، ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف ١٢/ ٣١].
ورأى بعضهم أن النوع الآدمي أفضل من الملائكة، لأن الملائكة مجبولون على الطاعة، والبشر فيهم نزعة الشرّ والخير، والآدمي يجاهد شهواته وميوله.
وقال جماعة: إن عموم الملائكة أفضل من عموم البشر، وخواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة.
وفي رأيي: أن التوقف عن الخوض في ذلك أولى، وإن كنت أرجح تفضيل الملائكة على البشر.
قصة آدم عليه السلام
تكرر اسم آدم عليه السلام في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة، فتحدثت عنه سورة البقرة في الآيات (٣١- ٣٧)، وآل عمران في الآيتين (٣٣، ٥٩)، والمائدة في الآية (٢٧)، والأعراف في الآيات (١١- ١٧٢)، والإسراء في الآيتين (٦١، ٧٠)، والكهف في الآية (٥٠)، ومريم في الآية (٥٨)، وطه في الآيات (١١٥- ١٢١)، ويس في الآية (٦٠). وتنوّع التعبير عن القصة، مرة باسمه وصفته، كما في السّور: البقرة والأعراف والإسراء والكهف، ومرة بصفته فقط، كما في سورتي الحجر وص، مما يدل على إعجاز القرآن الكريم.
وفي هذه القصة موضوعات ستة «١».
الأول- خلق آدم من طين: أبان القرآن الكريم أن أصل خلق آدم عليه السلام كان من طين، من حمأ مسنون- متغير- حتى إذا أصبح صلصالا كالفخار، نفخ الله فيه من روحه، فإذا هو إنسان متحرّك، ذو قدرات مادية وعقلية ومعنوية- أخلاقية، وكان آدم وحواء أصل النوع الإنساني كما أخبر القرآن، وقد أثبت العلماء زيف نظرية «دارون» التي تجعل القرد أصلا وأبا للإنسان.
الثاني- السجود لآدم: أمر الله تعالى إبليس والملائكة بالسجود لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس كان من الجنّ، ففسق عن أمر ربه، وأبى واستكبر.
الثالث- سبب مخالفة إبليس وعقابه: احتجّ إبليس بأنه أفضل من آدم، وقال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار باعتبار ما فيها من الارتفاع والعلو أشرف من الطين الذي هو عنصر ركود وخمود، فطرده الله من الجنة بسبب الكبر ونسبته الظلم إلى الله، لكنه طلب الإنظار إلى يوم الدّين، فأنظره الله، وتوعد آدم بإغواء ذريته، فردّ الله عليه بأن عباد الله المخلصين لا سلطان له عليهم، وتوعده ومن تبعه بالنار.
الرابع- استخلاف آدم في الأرض: أخبر الله تعالى ملائكته أنه سيجعل آدم خليفة عنه في الأرض يكون له سلطان في التصرف في موادها، فتساءلوا على سبيل العلم والحكمة، كيف تجعل في الأرض المفسدين وسفاكي الدماء، وهم- أي الملائكة- أهل الطاعة واجتناب المعصية؟ فأجابهم الحقّ سبحانه أنه يعلم في هذا المخلوق من الأسرار ما لا يعلمون، واختصه بعلم ما لا يعلمون.
الخامس- تعليم آدم أسماء الأشياء المحسوسة: ميّز الله آدم عن الملائكة بتعليمه أسماء جميع الأشياء المادية التي يراها حوله من زروع، وأشجار، وثمار، وأوعية، وحيوان، وجماد، لحاجته إلى الاستفادة منها في طعامه وشرابه، بخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء، ثم طالب الله الملائكة بأسماء المسميات المرئية الحاضرة، بعد أن عرض عليهم المسميات، فلم يعلموها. وحاجة ذرية آدم إلى الأشياء تدفعهم إلى العمل والتفكير، والتنقيب عن تلك الأشياء، وعمارة الكون وتقدم وسائل الحياة في كل المجالات من زراعة وصناعة وتجارة.
السادس- سكنى آدم وزوجته الجنة وخروجهما منها: أسكن الله آدم الجنة، وخلق له حواء، وأباح لهما الاستمتاع بثمار الجنة إلا شجرة عينها لهما، فوسوس لهما إبليس بالأكل منها وأغراهما، وقال لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأن الأكل منها يجعلكما من الملائكة، أو تكونا خالدين دون موت ولا فناء، فرفض آدم في مبدأ الأمر، وقاوم إغراءات الشيطان، ولكن إبليس استمر في إلقاء وساوسه: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٢١]، حتى نسي آدم أنه عدوه الذي أبى السجود له، فأكل آدم وحواء من الشجرة: فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه ٢٠/ ١٢١] ليسترا عوراتهما، فعاتب الله آدم على مخالفة أمره والأكل من الشجرة، فندم واستغفر الله وتاب، فقبل توبته، ولكنه أمره وحواء بالخروج من الجنة، والاستقرار في الأرض.
العظة من قصة آدم:
١- تفرد الله تعالى بأسرار وعلوم وحكم، ولم يطلع عليها أحدا من الخلق، حتى الملائكة، فإنهم جهلوا الحكمة من استخلاف آدم، وتساءلوا عن السبب في هذا الاختيار.