آيات من القرآن الكريم

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾
الآيات: (٣١، ٣٢، ٣٣) سورة البقرة.
الإنباء: إخبار فيه إعلام، وهو متضمن لهما ولذلك كل إنباء أخبار، وليس كل إخبار إنباء، وكل نبأ علماً وليس كل علم نبأ ولكونه متضمناً لهما، ومشتملاً عليهما أجري مجرى كل واحد منهما فقيل أنبأته بكذا كقولك أخبرته وأنبأته بكذا، كقولك أعلمته كذا، ولا يقال: " نبأ " إلا لكل خبر يقتضي العلم كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الأنبياء [عليهم السلام] وما جرى مجراها، وسمى النبي لكونه منبئاً بما تسكن نفسه إليه، ومنبأ بما سكن المؤمنون إليه فهو أصح من أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، أما بمعنى الفاعل، فلقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وقوله ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ وأما بمعنى المفعول فلقوله: ﴿نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ وشرح هذه الآية لابد أن يبين فيه كيف كان تعليم الله آدم الأسماء، وهل فيه دلالة على أن اللغات توقيف أو أوائلها إصطلاح؟ وأنه هل علمه الأسماء دون المعاني؟ أو علمه إياها جميعاً؟ وما في ذلك مما تنبه الملائكة على خطئهم فيما توهموه وقالوه حتى رجعوا عن دعواهم واعتقادهم وأذعنوا للاستسلام؟ فنقول وبالله التوفيق: إن الناس اختلفوا في اللغات، فذهب بعض المتكلمين إلى أن أوائلها اصطلاح، والباقي يصح أن يكون توقيفاً، واستدل على ذلك بأنه لا سبيل إلى معرفة مراد الله تعالى إلا بالخطاب، ولا يصح أن يكون العلم بمراده ضرورة والعلم بذاته مكتسباً لأن ذلك مؤد إلى أن تعلمه ضرورة أن العلم بمراده فرع على العلم بذاته فلا يصح أن يكون العلم الخفي ضرورياً والجلي

صفحة رقم 142

مكتسباً، وذلك فاسد، هذا ما قاله، والصحيح - إن شاء الله - ما ذهب إليه الجمهور إنه توقيف وقيل: الدلالة على المسألة إن تعليم الله عباده على أي وجه يكون، فذلك يسهل الكلام في المسألة، والقول في ذلك - إن شاء الله تعالى - قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ فذكر أن مكالمته للبشر على أحد هذه الوجوه الثلاثة، وأشرفها ما كان بإرسال رسول يرى ذاته، ويسمع كلامه كحال النبي - ﷺ - مع جبرائيل - عليه السلام - والثاني: ما كان بإلقاء الكلام في السمع من غير رؤية، كحال موسى - عليه السلام - في ابتداء أمره، والثالث: ما كان بوحي والوحي - ههنا - مخصوص بالإلقاء في الروع، والإلهام، والتسخير، والمنامات فتعليم الله تعالى آدم [عليه السلام] الأسماء على أحد هذه الوجوه، ومحال أن يكون الاصطلاح على الألفاظ متقدماً على التعليم فإن الاصطلاح لابد له من كلام يتواطؤون عليه، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون اصطلاح ولا لغة،
فإن قيل: فما ينكر أن يتواضعوا بإشارات وتصويت، فإن الأخرس يقدر على ذلك، وله مخارج الحروف، لأنا نجد الذين لا يتكلمون يفهمون ويفهمون ولا لغة لهم! قيل: الإشارات يفهم عنها بالاستدلال كسائر الاستدلالات التي لو توهمنا الكلام مرتفعاً لصح حصوله وليس للأخرس إلا الاستدلال فقط، ولا قدرة له على الألفاظ يؤلفها، وإنما صوته كصوت الطفل الذي لم يتلقن الألفاظ واللغة إنما تكون لغة بحصول تركيب المفردات الثلاث ولو كان إلى ذلك سبيل من غير تعليم، لكان من شرط البكم أن يتواضعوا فيما بينهم كلاماً لأن آفة البكم من السمع، وإنما عجز عن الكلام لعجزه عن التلقن بالسمع، فثبت أن ابتداء تعليم الكلام لا يكون إلا من معلم، وذلك قد كان من الله تعالى لآدم بأحد هذه الوجوه المتقدمة
إن قيل: كيف علمه الأسامي كلها وقد علمنا أنه ما من زمن إلا وبنوه يضعون

صفحة رقم 143

أسامي لمعاني وأعيان إما مخترعة وإما منقولاً إليها عن غيرها؟ قيل: قد قال بعض الناس: " إن كل تلك بجزئيات علمها الله تعالى آدم - عليه السلام - وإن ظهر في بعض الأزمنة من بعض أهله والصحيح: أن العلم في الحقيقة يتعلق بمعرفة الأصول المشتملة على الفروع، والمعاني الكلية المنطوية على الأجزاء كمعرفة جوهر الإنسان والفرس والقوانين التي يعرف بها حقيقة الشيء مثل أصول الضرب في الحساب، وأحوال الأبعاد والمقادير في الهندسة، والأصول المبني عليها المسائل الكثيرة في الفقه والكلام والنحو.
فأما معرفة الجزئيات متعرية عن الأصول، فليس بعلم، ولا يقال للعارف بها عالم على الإطلاق، وإنما هو في معرفتها محاك محاكاة الببغاء للألفاظ وإذا كان كذلك، فتعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها إعلامه القوانين والأصول المشتملة على الجزئيات والفروع وقد علم أن تعليم الكليات أعظم في الأعجوبة وأشبه بالأمور الإلاهية من تعليمنا الصبي الحرف بعد الحرف وقوله: (الأسماء كلها) أراد بها الألفاظ والمعاني ومفرداتها، ومركباتها وحقائقها وذوات الأشياء في أنفسها، وبيان ذلك أن الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما بحسب الوضع الاصطلاحي، وذلك هو للمخبر عنه، نحو: " رجل وفرس " والثاني: بحسب الوضع الأول، وذلك يقال للأنواع الثلاثة التي هي المخبر عنه، والخبر والرابط بينهما، وهي المعبر عنها بالاسم والفعل والحرف، وهذا هو المراد ههنا، فإنه - تعالى - لم يرد بقوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ تعليمه رجلاً وفرساً دون ذهب وخرج ومن وعن ولا يعرف الإنسان الاسم فيكون عارفاً بمسماه إذا عرض عليه إلا أن يعرف المسمى، ألا ترى أنا لو علمناه أسامي [بالهندية] أو بلغة مجهولة، ولم يعرف صورة ما له تلك الأسماء لم يكن عارفاً بها إذا شاهدناها وكنا عارفين بأصوات مجردة، فثبت أن معرفة الاسم لا تحصل إلا بمعرفة المسمى في نفسه وحصول صورته في الضمير، ثم المعلومات قد تكون جواهر وأعراضاً من

صفحة رقم 144

كميات وكيفيات، وإضافات وسائر ذلك من الأعراض، ويجعل للشيء الواحد أسامي بحسب هذه النظرات، فلابد أن يكون الإنسان عارفاً بهذه المعاني مجتمعة ومفترقة حتى يكون عارفاً بالأسماء التي يجعل [ذلك] لها بحسبها، مثال ذلك: أنه يقال للشخص الواحد " فلان " - اعتباراً بلقبه، و " رجل " اعتباراً بالآلة المولدة، [و " ابن " اعتباراً بوالده، و " أب " اعتباراً بولده] و " أخ " اعتباراً بمن ضمه وإياه نسب، وقرشي وأصبهاني اعتباراً بقبيلته وبلده إلى غير ذلك من الأسماء [التي يكثر تعدادها، فإذا حقيقة قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ متضمنة لما ذكرناه،
فإن قيل: فأي شيء في تعليم آدم الأسماء من تنبيه الملائكة على ما سئلوا عنه؟ قيل: إن الله تعالى لما خلق الإنسان من أمشاج مختلفة وقوى متفاوته وجعله جسمانياً روحانياً، وحصل له بحسب القوى المختلفة معارف مختلفة وأفعال متفاوته، فإن له بحسب الحواس الخمس معارفاً خمساً، وبحسب العقل معارف معقولة وبحسب الوهم والخيال معارف موهومة متخيلة وحصل له بحسب التراكيب البدنية وبسائطها أفعال متباينة ومهن متفاوتة كالتجارة، والصياغة، وسائر الصناعات.
وجل ذلك معدوم في الملك لعدم كثافة الجسم المركب من الأمشاج، ولاستغنائها عن ذلك، فبين الله تعالى بتعليمه آدم - عليه السلام - هذه الأسماء كلها والمعاني وعرضها على الملائكة، وأنبأ آدم - عليه السلام - بها وبحقائقها.
ومعرفة تعاطي الصناعات المختصة بالإنسان عجز الملائكة، وأن الإنسان مستصلح لعلوم وأعمال ليس للملك سبيل إليها [بوجه] فإن المحسوس لا يدركه محسوساً إلا ذو الحاسة، والمهن لا يتعاطاها إلا من ركب تركيب الإنسان من القوى المتفاوته التي منها القوتان اللتان كانوا يرونهما مفسدتين.
أعني القوة

صفحة رقم 145

الشهوية والقوة والغضبية، ونبههم أن ذلك وإن كان فيه مفسدة ما، ففيها مصالح كثيرة، وأن الخلافة التي رشح لها الإنسان في الأرض لا يصلح لها إلا هذا التركيب، فحينئذ قال لهم: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).
إن قيل: ما وجه قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وهل كان لهم في ذلك التشكك حتى احتاجوا إلى أن يقال لهم ذلك؟ قيل له: ليس مخرج هذا الكلام على الوجه الذي توهمته، بل هو تنبيه لهم بما عملوه مجملاً على ما اشتبه عليهم مفصلاً، وتقدير ذلك: كأنه قيل: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومن علم غيب السماوات والأرض علم ما تبدون وما تكتمون.
ومن علم ذلك علم ما لا تعلمون.
إن قيل: فما [تلك] الفضائل التي اختص الإنسان بها واستصلح لها مما لم يكن للملائكة؟ قيل له: إن ذلك هو تعاطي العفة التي هي مختصة بالقوة الشهوية، والنجدة المختصة بالقوة الغضبية، والإنصاف في المعاملات، وسياسة الإنسان نفسه، ومجاهدة هواه وسياسة ذويه وأبناء جنسه، فإن كل ذلك فضائل ليست إلا للإنسان المختص بقوته الشهوية والغضبية، فأما الملك المعرى عن مقاسات عارية " بطنه وفرجه " فليس بمحتاج إلى سياسة البدن وسياسة أبناء جنسه في مراعاة ذلك منهم، [وهذا ظاهر]
إن قيل: في وجه قوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) وذلك تكليف لهم ما لا تعلمون وتكليف إيراد ما لا يعلم تكليف ما لا يطاق، وما وجه قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ والصدق إنما يتعلق بالخبر، وهم إنما استخبروا ولم يخبروا فكيف يصح أن يصدقوا أو يكذبوا قيل: أما قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ فليس بتكليف وإنما هو تنبيه على عجزهم عن الخلافة التي رشح الإنسان لها، وقد علم أن لفظة " افعل " تجيء على أوجه، منها: التبكيف والتعجيز، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فالصدق وإن كان لا يدخل الاستخبار والأمر والنهي بالقصد

صفحة رقم 146

الأول، ومن حيث مقتضى اللفظ، فإنه قد يدخلها بالقصد الثاني، ومن حيث المعاني فإن السائل إذا قال مستفهما: أزيد في الدار؟ أو قال: أعطني شيئاً، فكأنه بالأول ينبه على جهله يكون زيد في الدار، وبالثاني على حاجة وافتقار، فمن هذا الوجه صح أن يقال: " هو صادق أو كاذب " على أن هذا حكم على قولهم: (من يفسد فيها ويسفك الدماء) فإنهم استفهموا بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ ويصح أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ تنبيهاً لهم على أنه ليس كل تسبيح وتقديس بما يقولونه، بل من التسبيحات والتقديسات ما يصلح له غيركم، وهو ما تقدم ذكره.
إن قيل: ما وجه قوله: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ وهو عالم بما علمهم وعالم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم؟ قيل: القصد بذلك إظهار أن ليس سؤالهم على وجه الاعتراض، بل على سبيل الاستفادة وإظهار العجز، وأنه قد بدا لهم ما كان خفي عليهم من فضيلة الإنسان وإظهار الشكر لنعمته وتعظيم منته بما عرفهم وفيه تنبيه على استعمال [حسن] الأدب عند سؤال المعلم بتفويض العلم إليه وتنبيه على أعظم التواضع، فقد قيل لبعض الحكماء: ما أعظم التواضح؟ فقال: الاعتراف بالجهل للعالم، وفيه تنبيه على العلم بما جهلوه، وذلك إحدى فضيلتي الإنسان، وقال بعض المحققين: الافتخار مدرجة للسقوط، انظر كيف اضطر الله الملائكة لما قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ إلى أن اعترفوا بعدم العلم، فمن استكثر لله طاعة واستكبر له خدمة فالجهل موطنه واستدل بعضهم بهذه الآية على أن العلم أفضل من العبادة، فإن الملائكة أذعنوا لآدم [عليه السلام] لما أفيد من العلم، والحكيم أصله لمن له الفعل المحكم، لكن لما يصح حصول الففعل المحكم إلا بالعلم [المتقن] صارت الحكمة متناولة للعلم والعمل معاً.
فالحكمة منتهى العلم.
والعلم مبدأ الحكمة، ولا يتم أحدهما إلا بالآخر.
فلهذا جمع بينهما.
وقدم " العليم " [هاهنا] على " الحكيم " فقال: (إنك أنت العليم الحكيم).

صفحة رقم 147

قوله - عز وجل -:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
الآبة: (٣٤) سورو البقرة.
الخضوع والخشوع والخنوع والسجود والركوع تتقارب، وبينهما فروق، فالخضوع ضراعة بالقلب، والخشوع بالجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، وقال: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾، والخشوع ضراعة لمن دونه رغبة في عرض في يده، وكذلك أكثر ما يجئ في الدم، والركوع تذلل مع التطأطؤ.
والسجود مع خفض الرأس.
وسجود الملائكة إن أريد به المتعارف في الشرع.
فليس بعبادة لآدم -[عليه السلام]، فعبادة غير الله تعالى لا تجوز بوجة، وإن كان على حسب المتعارف للخدمة، فقد قيل: إن ذلك كان مباحاً قبل شرعنا، وعلى ذلك ما روي في قصة يوسف - عليه السلام - ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، وقد قيل: أريد به التذلل كقوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}.
وقول الشاعر:
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وإبليس: لفظة أعجمية، فلا يصح أن تكون مشتقة من العربية.

صفحة رقم 148

وقول ابن عباس - رضي الله عنهما - " إبليس أبلس من رحمة الله، إلى ذكر الحكم لا إلى معنى اللفظ، ويصح أن يجعل " إبليس " مشتقاً منه بعد الانتقال إلى العربية، وعلى ذلك كثير من الأعلام أعجمياً كان أو عربياً يتصورون منه معنى ما، ويشتقون منه نحو قولهم: " تفرعن فلان " إذا فعل فعل فرعون في العتو وتشيطن إذا فَعَلَ فِعْلَ الشيطان، وتمرد: فعل فعل المردة، فعلى هذا تصوروا من إبليس يأسه من رحمة الله، فاشتقوا منه، فقالوا " أبلس فلان " أي: " أجرى مجرى إبليس " في يأسه من الرحمة وإبعاده من الخير، وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ أي: يائسون من الخير يأس إبليس منه، وأيضاً قد تتطابق لغة العرب والعجم في لفظة نحو: " أيوب وإسحف "، فإنهمت قد يكونان فيعولاً، وإفعالاً من أب وسحق، ويكونان أعجمين، وآدم - عليه السلام - قيل: سمي بذلك لكونه مخلوقاً من أديم الأرض على ما روي أن الله تعالى قبض قبضة من جميع الأرض - سهلها وجبلها، فخلق منها آدم - عليه السلام - فلذلك يأتي بنوه أخيافاً، قال قطرب: لا يكون من ـديم الأرض، لأنه لو كان كذلك، لانصرف نحو: " طابع، وخاتم " وطابق وليس كما قال، فإن " آدم " أفعل منه، وأصله: أأدم، فقلبت الهمزة ألفاًَ، وقيل: هو أفعل من الأدمة: أي اختلاط البياض بالسواد، " وأدمت بين الشيئين "، أي خلطت ومنه: الأدم، وطعام مأدوم أي مخلوط، وقال: وسمي بذلك، لأنه خلق من الأركان الأربعة، ومن الأمزجة المتفاوتة والقوى المتباينة، والإباء: الامتناع من الشيء مع

صفحة رقم 149

الإرادة، فكل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء، قال الله تعالى: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ وقيل: " أبيت اللعن "، وهي أبوأ، إذا تسلط عليها داء، فصار مانعاً لها من الشراب والتكبر: أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره فضلاً، والاستكبار: طلب ذلك بالشبع والكبر، والتيه، والبغي، والزهو، والاستطالة، والخيلاء، والصلف تتقارب، وبينها فرق، فالتيه: التحير في معرفة قدر النفس، والبغي: طلب منزلة فوق ما يستحقه، والزهو: سرعة الحكم لنفسه بالفضل، من: " زهاه كذى " إذا استحقه، والاستطالة: إظهار طول، أي فضل على الغير.
والخيلاء: ظن بالنفس كاذب، من قولهم: خلت، والصلف: قلة التلفت إلى الغير من قولهم: صلف: إذا اشتكى صليفه، واعتباراً بهذا المعنى قال الشاعر:
إن الكريم من تلفت حوله...
فإن اللئيم الطرف أقود
* واختلف في إبليس هل كان من الملائكة؟ فقال قوم: كان منهم، بدلالة استثنائه من الملائكة المأمورين للسجود لآدم، وقال قوم: لم يكن منهم اعتباراً بقوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الملائكةعلى ثلاثة أضرب على ما تقدم آنفاً، وضرب منهم يقال لهم الجن، ومنهم إبليس، ولهم توالد، ولهذا قال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾، وقيل: إن الجن كانوا مأمورين مع الملائكة بالسجود له، لكن لم يحتج إلى ذكرهم، فالسلطان إذا أمر أماثل رعيته بالخضوع لإنسان، فمعلوم أن أصاغرهم مأمورين بذلك، ألا ترى أن

صفحة رقم 150

قوله تعالى لموسى ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ معلوم أنه لم يبعث، إليه وحده، وبعض الناس اعتبر لفظ " كان "، وروي أن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم، وحاربهم الملائكة، وسبوا إبليس، فصار بالحكم من الملائكة، فمولى القوم منهم، وبالنسبة من الجن، فصار بصدق عليه القولان، ويجوز أن يكون عنى أنه كان من الجن فعلاً، ومن الملائكة نوعاً، وباعتبار الفعل قال تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
إن قيل: كيف يصح أن يكون من الملائكة نوعاً والله قد وصفهم بأنهم ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾؟ قيل: إن ذلك في وصف خزنة جهنم، وليس كون بعضهم على هذه الصفة مقتضيا أن يكون كلهم كذلك، و (كان من الجن): قيل معناه: صار ههنا، وليس ذلك بشيء، فإن (كان) استعمل (ههنا) على أحد وجهين: إما لاعتبار وقت العصيان بوقت الاختبار، ويكون بالإضافة إليه ماضياً فيجب أن يقال: كان، وإما أنه قال: ﴿كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ - تبيهاً أن ما تقدم من طاعته غير معتد به، وأن حكمه من قبل حكم الكافرين، فمن شرط الطاعة أن لا تحبط ومن حكم الإيمان أن يمتد ويتصل،
إن قيل: كيف أمر الملائكة بالسجود لآدم ومنزلتهم فوق منزلته بدلالة أن إبليس مناه أن يكون إياهم بقوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ وبعيد أن يؤمر الفاضل بالتخضع للمفضل؟ قيل: الخضوع لآدم كان خضوعاً لله تعالى من أجل الائتمار له فيما أمرهم به، وظاهر في العادات أن التذلل لخادم كبير خضوع لذلك الكبير، وأيضاً: فإن الإنسان في باب الفضائل التي ذكرناها آنفاً أفضل من الملك وإن كان الملك أفضل منه من وجوه أخر، والشيئان قد يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ووجه، وإنما المنكران بفضل كل واحد منها الآخر من وجه واحد، وفي الآية تنبيه على وجوب الائتمار لمن له الخلق والأمر، ومجانبة عصيانه، وارتكاب التكبر والحسد، وإنها قد يفضيان براكبهما إلى الكفر، كما روى في الخبر: " أن أول ما عصي به الله في السماء والأرض الكبر والحسد " وحث على ترك الدخول في سره والاعتراض على حكمه.

صفحة رقم 151
تفسير الراغب الأصفهاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى
تحقيق
هند بنت محمد سردار
الناشر
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
سنة النشر
1422
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية