آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ

ثم قال: وأمّا كون السموات هي السيارات السبع بدون توابعها، فلا يفهم من الآية، لأن الأقمار التي نثبتها، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ، يلزم أن تكون تابعة للسموات السبع- لأنها تعلونا- وهي في العالم الشمسيّ. وحينئذ، فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع. بمعنى: أن مجموعة زحل- بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية- تعد سماء، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري. ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: ٥] يشير إلى أن السماء الدنيا- أي السماء التي تلي الأرض- فلك المرّيخ. فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح، وتعتبر كلها سماء وليس السيّار نفسه... !
انتهى.
وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله، من خلق السموات والأرض وما فيها- على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة، والمصالح اللائقة. فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق.
ولما ذكر تعالى الحياة والموت- المشاهدين- تنبيها على القدرة على ما اتبعهما به من البعث، ثم دل على ذلك أيضا بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع، وختم ذلك بصفة العلم- ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشريّ- المودع من صفة العلم- ما ظهر به فضله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (٢) : آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي قوما يخلف بعضهم بعضا، قرنا بعد قرن. كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: ١٦٥] وقال وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل: ٦٢] وقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف: ٦٠] وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: ٥٩]. ويجوز أن يراد: خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان

صفحة رقم 284

الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريّته، وأن يراد: خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه. وكذلك كل نبيّ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: ٢٦] والغرض من إخبار الملائكة بذلك، هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم، أو الحكمة: تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم- وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيّا عن المشاورة- أو تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، بأن بشّر بوجود سكّان ملكوته، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقّبه بالخليفة.
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ هذا تعجب من أن يستخلف- لعمارة الأرض وإصلاحها- من يفسد فيها، واستعلام عن الحكمة في ذلك. أي: كيف تستخلف هؤلاء، مع أنّ منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك- أي ولا يصدر عنا شيء من ذلك- وهلّا وقع الاقتصار علينا... ؟ فقال تعالى مجيبا لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي: إنّ لي حكمة- في خلق الخليفة- لا تعلمونها.
فإن قلت: من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجّبوا منه، وإنما هو غيب؟
أجيب: بأنهم عرفوه: إما بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية. فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: ٢٦] أو فهموا من «الخليفة» أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم.
قال العلّامة برهان الدين البقاعيّ في تفسيره: وما يقال من أنّه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلق يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام- كلام لا أصل له. بل آدم أوّل ساكنيها بنفسه. انتهى.
وقوله تعالى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: ننزّهك عن كل ما لا يليق بشأنك، ملتبسين بحمدك- على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة.
وقوله نُقَدِّسُ لَكَ أي: نصفك بما يليق بك- من العلوّ والعزّة- وننزّهك عمّا لا يليق بك. وقيل: المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك. كأنهم قابلوا

صفحة رقم 285

الفساد، الذي أعظمه الإشراك، بالتسبيح. وسفك الدماء، الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم، بتطهير النفس عن الآثام. لا تمدحا بذلك، ولا إظهارا للمنّة، بل بيانا للواقع.
تنبيهات في وجوه فوائد من الآية
الأول: دلت الآية على أن الله تعالى- في عظمته وجلاله- يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال، ويكون بالحال، والتوجّه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها- كالبحث العلميّ، والاستدلال العقليّ، والإلهام الإلهيّ-.
الثاني: إذا كان من أسرار الله تعالى، وحكمه، ما يخفى على الملائكة، فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا... !
الثالث: إنّ الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل- بعد الإرشاد- إلى الخضوع والتسليم. وذلك أنه- بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون- علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة، كما سيأتي بيانه.
الرابع: تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا. فإذا كان الملأ الأعلى قد مثّلوا على أنهم يختصمون، ويطلبون البيان والبرهان، فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين. أي فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين. وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها. وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب، وكونه لا ريب فيه، والرسول، وكونه يبلغ وحي الله تعالى، ويهدي به عباده، واختلاف الناس فيها.
ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها أو قريبة منها. مع كون الجميع في سياق موضوع واحد. - كذا في تفسير مفتي مصر-.

صفحة رقم 286
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية