
أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) }
شرح الكلمات:
﴿تَدَايَنْتُمْ١﴾ : داين بعضكم بعضاً في شراء أو بيع أو سلم أو قرض.
﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً٢﴾ : وقت محدد بالأيام أو الشهور أو الأعوام.
﴿بِالْعَدْلِ﴾ : بلا زيادة ولا نقصان ولا غش أو احتيال بالحق والإنصاف.
﴿وَلا يَأْبَ﴾ : لا يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب.
﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ : لأن إملاءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق.
﴿وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ : لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل كفلس وليذكره كله.
٢ ذكر الأجل المسمى يجعل الآية في بيع السلم لحديث الصحيح: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". والسلم والسلف واحد. ويقال له: بيع المحاويج.

شرح الكلمات:
﴿سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً﴾ : السفيه: الذي لا يحسن التصرفات المالية، والضعيف: العاجز عن الإملاء؛ كالأخرس، أو الشيخ الهرم.
﴿وَلِيُّهُ﴾ : من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره.
﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ : أي المسلمين الأحرار دون العبيد والكفار.
﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ : تنسى أو تخطئ لقصر إدراكها.
﴿وَلا تَسْأَمُوا﴾ : لا تضجروا أو تملوا من الكتابة ولو كان الدين صغيراً مبلغه.
﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾ : أعدل في حكم الله وشرعه.
﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ : أثبت لها وأكثر تقريراً؛ لأن الكتابة لا تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب.
﴿وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا١﴾ : أقرب أن لا تشكوا بخلاف الشهادة بدون كتابة.
﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ : أي: تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ : إذا باع أحد أحداً داراً أو بستاناً أو حيواناً يشهد على ذلك البيع.
﴿وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ﴾ بأن يكلف مالاً يقدر عليه بأن يدعي ليشهد في مكان بعيد يشق عليه أو يطلب إليه أن يكتب زوراً أو يشهد به.
﴿فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ : أي: خروج عن طاعة ربكم لاحق بكم إثمه وعليكم تبعته يوم القيامة.
﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ : في أوامره فافعلوها، وفي نواهيه فاتركوها، وكما علمكم هذا يعلمكم كل ما تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها وهو بكل شيء عليم.

معنى الآية الكريمة:
لما حث تعالى على الصدقات وحرم الربا، ودعا إلى العفو على المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدين الأمر الذي قد يتبادر إلى الذهن أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة فجاءت هذه الآية، آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقه وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة فقررت واجب الحفاظ عليه بكتابة الديون والإشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم وكون الشهود رجلين مسلمين حرين، فإن انعدام رجل من الاثنين قامت امرأتان١ مقامه، واستحث٢ الله تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان في سعة من أمره، وحرم على الشهود إذا ما دعوا لأداء الشهادة أن يتخلوا عنها، وحرم على المتداينين أن لا يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة، فقال تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾، ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه فقال: ﴿إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا... ﴾، وأمر بالإشهاد على البيع فقال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ... ﴾، ونهى عن الإضرار بالكاتب أو الشهيدين، بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو كذلك في شغله، أو أن يدعي إلى مسافات بعيدة تشق عليه إذ أمره تطوع وفعل خير لا غير فليطلب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما. وحذر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والإضرار بالكاتب والشهيد فقال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ... ﴾ وأكد ذلك بأمره بتقواه فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ... ﴾ بامتثال أمره ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما علمكم هذا العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم. هذا معنى الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ... ﴾.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعاً، أو شراءً، أو سلفاً، أو قرضاً هذا ما قرره ابن جرير،
٢ نعم إذا كان في سعة من أمره فليكتب على سبيل الندب، وإن لم يوجد غيره وجب عليه أن يكتب وفي قوله. ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أمر له أن يكتب الوثائق على طريقتها فلا يبدل ولا يغير، وفيه تذكير له بالنعمة إذ كان لا يعرف الكتابة فعلمه الله إذاً فليشكر الله هذه النعمة بالكتابة لمن طلبها منه.

ورد القول بالإرشاد والندب١.
٢- رعاية النعمة بشكرها لقوله تعالى للكاتب: كما علمه الله فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره منها.
٣- جواز النيابة في الإملاء لعجز عنه وعدم قدرة عليه.
٤- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.
٥- وجوب الإشهاد على الكتابة لتأكدها به، وعدم نسيان قدر الدين وأجله.
٦- شهود٢ المال لا يقلّون عن رجلين عدلين من الأحرار٣ المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.
٧- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيراً تافهاً.
٨- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
٩- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال.
١٠- حرمة الإضرار بالكاتب٤ والشهيد.
١١- تقوى الله تعالى بسبب العلم، وتُكسب المعرفة٥ بإذن الله تعالى.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
٢ كون الشهود لا يقلون عن اثنين هذا عام في كل شهادة إلا شهادة الزنى فإنهم لا يقلون عن أربعة أبداً.
٣ اختلف في شهادة العبيد والصبيان والجمهور على عدم جواز شهادتهم إلا في الأمور التافهة فلا بأس بذلك.
٤ قوله تعالى: {إذا ما دُعوا﴾ دل على أن الشهود يأتون الحاكم ليشهدوا، ودل على أن من لم يدع ليس عليه أن يشهد، ولكن ورد في السنة الترغيب في أداء الشهادة ولو لم يدع إليها المسلم لا سيما إذا توقف على شهادته إثبات حق من الحقوق فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة.
٥ قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ هو وعد منه تعالى بأن يجعل للمتقي نوراً في قلبه يفهم به ما يلقى إليه ويفرق بين الحق والباطل يشهد لهذا قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾ الأنفال.