
أخرى معرفة الحق والعمل به. قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولبّ وإصابة رأي. وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل. ويقال: أمر حكيم، أي محكم. وهو فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى:
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: ٤].
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً إذ بها انتظام أمر الدارين. والإظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها. وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله هو من آتاه الله الحكمة وَما يَذَّكَّرُ أي يتعظ بأمثال القرآن والحكمة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ذوو العقول من الناس، الخالصة من شوائب الهوى. وهم الحكماء. والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٠]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أي يؤول إلى الإنفاق فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه وَما لِلظَّالِمِينَ أي الذين ينفقون رئاء الناس، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه. أو بضم المنّ والأذى إليه، أو بالإنفاق من الخبيث، أو يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور مِنْ أَنْصارٍ أي من أعوان ينصرونهم من عقاب الله.
قال الحراليّ: ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخيّ وبيد الكريم كلما عثر فيجد له نصيرا ولا يجد الظالم، بوضع القهر موضع البر، ناصرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (٢) : آية ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية.
وبيان له. ولذلك ترك العطف بينهما. أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها. لأنه

يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع من محتاج وغيره ويفيد اتباع الناس إياه وَإِنْ تُخْفُوها أي تسرّوها مخافة الرياء، وسترا لعار الفقراء وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي من العلانية. لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ذنوبكم بقدر صدقاتكم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ترغيب في الإسرار.
وفي الصحيحين «١» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل.
وشاب نشأ في عبادة ربه. ورجل قلبه معلق في المساجد. ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه. ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين. ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه».
وروى الإمام أحمد «٢» وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل؟ قال: سرّ إلى فقير، أو جهد من مقلّ».
لطائف:
قال: أبو البقاء في قوله تعالى (فنعما هي) : نعم فعل جامد لا يكون فيه مستقبل. وأصله نعم كعلم. وقد جاء على ذلك في الشعر. إلا أنهم سكّنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون ليكون دليلا على الأصل. ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل. ومنهم من يكسر النون والعين اتّباعا. وبكلّ قد قرئ. وفاعل (نعم) مضمر و (ما) بمعنى شيء. ثم قال: (ونكفر عنكم) يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عزّ وجلّ ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضا وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء. ويقرأ (وتكفر) بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة. ويقرأ بجزم الراء عطفا على موضع فَهُوَ خَيْرٌ وبالرفع على إضمار مبتدأ أي ونحن أو وهي. و (من) هنا زائدة عند الأخفش فيكون (سيئاتكم) المفعول.
وعن سيبويه المفعول محذوف أي شيئا من سيئاتكم. والسيئة فيعلة. وعينها واو لأنها من ساء يسوء فأصلها سيوئة فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها. انتهى.
وفي (غيث النفع) : قرأ (فنعما) الشامي. والإخوان بفتح النون. والباقون بالكسر. وقرأ قالون والبصريّ وشعبة بإسكان العين واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين يريدون الاختلاس فرارا من الجمع بين الساكنين، والباقون بكسر العين، واتفقوا على تشديد الميم. ثم ناقش الشاطبيّ في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة ١٧٨ من ج ٥.