آيات من القرآن الكريم

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فالحكمة هي العلم النافع وفعل الصواب. فقيل في حد الحكمة: هي التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تخلّقوا بأخلاق الله تعالى»
. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ أي إصابة القول والفعل والرأي فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أي أعطي خير الدارين وَما يَذَّكَّرُ أي ما يتفكر في الحكمة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) أي إلا أصحاب العقول السليمة من الركون إلى متابعة الهوى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أي أيّ نفقة كانت في حق أو باطل، في سر أو علانية قليلة أو كثيرة. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أي أيّ نذر كان في طاعة أو معصية، بشرط أو بغير شرط، متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي ما أنفقتموه فيجاز بكم عليه وَما لِلظَّالِمِينَ بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الزكاة وعدم الوفاء بالنذور، أو بالإنفاق بالخبيث أو بالرياء والمن والأذى مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) أي أعوان ينصرونهم من عقاب الله
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إظهارها بعد أن لم يكن رياء وسمعة وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي أفضل من إيذائها وإيتائها الأغنياء.
روي أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا. وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «نكفر» بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم أي و «نكفر» عنكم شيئا من ذنوبكم بقدر صدقاتكم. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «يكفر» بالياء والرفع. والمعنى يكفر الله أو يكفر الإخفاء. وقرئ قراءة شاذة «تكفر» بالتاء وبالرفع والجزم والفاعل راجع للصدقات. وقرأ الحسن بالتاء والنصب بإضمار أن. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الصدقة في السر والعلانية خَبِيرٌ (٢٧١) لا يخفى عليه شيء منه لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ
أي ليس عليك هدي من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إلى الدخول في الإسلام.
روي أن نبيلة أم أسماء بنت أبي بكر وجدتها وهما مشركتان جاءتا أسماء تسألانها شيئا.
فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكما لستما على ديني. فسألته عن الصدقة على الكفار فقالت: هل يجوز لنا يا رسول الله أن نتصدق على ذوي قرابتنا من غير أهل ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية. فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تتصدق عليهما، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير ولو على كافر فإنما هو يحصل لأنفسكم ثوابه فلا يضركم كفرهم وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي ولستم في صدقتكم على أقاربكم من

صفحة رقم 100

المشركين تقصدون إلا وجه الله. فقد علم الله هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال على الفقراء يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفي إليكم ثواب ذلك في الآخرة وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد، لأن الجهاد كان واجبا في ذلك الزمان. نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة. لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ولا يستطيعون سفرا في الأرض، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لخوفهم من الأعداء كما قاله قتادة وابن زيد لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم فذلك يمنعهم من السفر، وإما لمرضهم بالجروح كما قاله سعيد بن المسيب ولعجزهم لفقرهم كما قاله ابن عباس وذلك يمنعهم من السفر فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي يظنهم من لم يختبر أمرهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة تَعْرِفُهُمْ أيها المخاطب بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم من الهيبة ووقع في قلوب الخلق وآثار الخشوع في الصلاة فكل من رآهم تواضع لهم.
روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف أي كثرة التلطف وملازمة المسؤول أي إنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق. والمراد بقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا. عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذي السآل الملحف الذي إن أعطي كثيرا أفرط في المدح، وإن أعطي قليلا أفرط في الذم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) فيجازيكم على ذلك أحسن جزاء وهذا يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علمي شاهدا بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعا مما إذا قال له: إن أجرك واصل إليك الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في الصدقة بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بالدوام وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) إذا حزن غيرهم.

صفحة رقم 101

قيل: لما نزل قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلا فنزلت هذه الآية.
وقال ابن عباس: إن عليا رضي الله عنه ما يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على هذا؟» فقال: أن أستوجب ما وعدني ربي. فقال: «لك ذلك». فأنزل الله تعالى هذه الآية
. وقيل: نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية. وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان.
وقال الأوزاعي نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد وينفقون عليها الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه استحلالا لا يَقُومُونَ من قبورهم إذا بعثوا إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أي إلا قياما كقيام الذي يتخبله الشيطان من إصابة الشيطان بالجنون في الدنيا، أي أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف بتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بالجنون. ذلِكَ أي كون التخبل علامة آكل الربا في الآخرة بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي إنما الزيادة في البيع كالزيادة في الربا، أي ذلك العذاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله وقالوا: يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين، بل جعلوا الربا أصلا في الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما وفي الثاني منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا أي أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء وحرم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي زجر وتخويف عن الربا مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى أي امتنع عن أخذه فَلَهُ ما سَلَفَ.
قال السدي: أي له ما أكل من الربا وليس عليه ردما سلف فأما ما لم يقض بعد النهي فلا يجوز له أخذه وإنما رأس ماله فقط وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أي يجازيه على انتهائه عن أخذه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية وَمَنْ عادَ إلى تحليل الربا بعد التحريم فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) أي ماكثون أبدا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يهلك المال الذي دخل فيه في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: إن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم. وَيُرْبِي

صفحة رقم 102
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية