
وَلُبٍّ وَإِصَابَةِ رَأْيٍ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ وَيُقَالُ: أَمْرٌ حَكِيمٌ، أَيْ مُحْكَمٌ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخَانِ: ٤] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ اشْتِقَاقِ اللُّغَةِ يُطَابِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَمَنْ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ بِمَعْنَى: وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، وَهَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْعِلْمِ لَمْ تَكُنْ مُفَسَّرَةً بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْبَهَائِمِ وَالْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا حِكَمٌ، فَهِيَ مُفَسَّرَةٌ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدر غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ وَالْقُرْآنَ، أَوْ قُوَّةَ الْفَهْمِ وَالْحِسِّيَّةَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
قُلْنَا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدْفَعُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ ثَبَتَ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ/ لَفْظُ الْحَكِيمِ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ مُغَايِرَةً لِلنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، بَلْ هِيَ مُفَسَّرَةٌ إِمَّا بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ الصَّائِبَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، فَإِنْ حَاوَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ حَمْلَ الْإِيتَاءِ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ وَالْأَلْطَافِ، قُلْنَا: كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ فَعَلَ مَثَلَهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَدْحَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى الْحِكَمَ وَالْمَعَارِفَ حَاصِلَةً فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ وَتَدَبَّرَ وَعَرَفَ أَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِإِيتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ، كَانَ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْمُسَبِّبَاتِ، بَلْ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى أَسْبَابِهَا، فَهَذَا الِانْتِقَالُ مِنَ الْمُسَبِّبِ إِلَى السَّبَبِ هُوَ التَّذَكُّرُ الَّذِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِهَا وَتَحْصِيلِهَا، كَانَ مِنَ الظَّاهِرِيِّينَ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمُسَبِّبَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَسَّرُوا الْحِكْمَةَ بِقُوَّةِ الْفَهْمِ وَوَضْعِ الدَّلَائِلِ، قَالُوا: هَذِهِ الْحِكْمَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بها المرء بأن يتدبر ويتفكر، فيعرف ماله وَمَا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدُمُ أَوْ يَحْجِمُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٠]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْوَدِ الْمَالِ، ثُمَّ حَثَّ أَوَّلًا: بِقَوْلِهِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة: ٢٦٧] وثانياً: بقوله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة: ٢٦٨] حيث عَلَيْهِ ثَالِثًا: بِقَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ عَلَى اخْتِصَارِهِ، يُفِيدُ الْوَعْدَ الْعَظِيمَ لِلْمُطِيعِينَ، وَالْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِلْمُتَمَرِّدِينَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي قَلْبِ الْمُتَصَدِّقِ مِنْ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ مِنْ نِيَّةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ عِلْمَهُ بِكَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْمُتَصَدِّقِ يُوجِبُ قَبُولَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الْمَائِدَةِ: ٢٧] وَقَوْلُهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى تِلْكَ الدَّوَاعِي وَالنِّيَّاتِ فَلَا يُهْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُهَا، لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَخِيرِ، كَقَوْلِهِ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِتَابَةَ عَادَتْ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لِأَنَّهَا اسْمٌ كَقَوْلِهِ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَةِ:
٢٣١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّذْرُ مَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ يُقَالُ: نَذَرَ يَنْذُرُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ عِنْدَهُ، وَأَنْذَرْتُ الْقَوْمَ إِنْذَارًا بِالتَّخْوِيفِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُفَسَّرٍ وَغَيْرِ مُفَسَّرٍ، فَالْمُفَسَّرُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجٌّ، فَهَهُنَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمُفَسَّرِ أَنْ يَقُولَ: نَذَرْتُ لِلَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا ثُمَّ يَفْعَلُهُ، أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَلْزَمُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلظَّالِمِينَ، وَهُوَ قِسْمَانِ، أَمَّا ظُلْمُهُ نَفْسَهُ فَذَاكَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا ظُلْمُهُ غَيْرَهُ فَبِأَنْ لَا يُنْفِقَ أَوْ يَصْرِفَ الْإِنْفَاقَ عَنِ الْمُسْتَحِقِّ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَكُونَ نِيَّتُهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، أَوْ يُفْسِدَهَا بِالْمَعَاصِي، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ لَيْسَا مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الْغَيْرِ، بَلْ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى النَّفْسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ نَاصِرَ الْإِنْسَانِ مَنْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ فَلَوِ انْدَفَعَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ بِشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ لَكَانَ أُولَئِكَ أَنْصَارًا لَهُمْ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُرْفَ لَا يُسَمِّي الشَّفِيعَ نَاصِرًا، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤٨] فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالنَّاصِرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَنْصَارِ نَفْيُ الشُّفَعَاءِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: لَيْسَ لِمَجْمُوعِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الظَّالِمِينَ وَلَفْظُ الْأَنْصَارِ جَمْعٍ، وَالْجَمْعُ إِذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ تَوَزَّعَ الْفَرْدُ عَلَى الْفَرْدِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الظَّالِمِينَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.