
(الذين ينقضون عهد الله) النقض إفساد ما أبرم من بناء أو حبل أو عهد، والنقاضة ما نقض من حبل الشعر، وقيل أصل النقض الفسخ وفك المركب، والمعنى متقارب، والمعنى يتركون ويخالفون، وأصل العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال والعهد قيل هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره وهو قوله (ألست بربكم قالوا بلى) وقيل هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به، وقيل بل هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر مخلوقاته، ونقضه ترك النظر فيه، وقيل هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس.
(من بعد ميثاقه) الضمير للعهد أو لله تعالى، قاله السمين، وعلى الأول مصدر مضاف إلى المفعول، وعلى الثاني مضاف للفاعل، " ومن " لابتداء الغاية فإن ابتداء النقض بعد الميثاق، والميثاق العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدة في العقد والربط جميعاً، والجمع المواثيق والمياثيق، واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الإستعارة.
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) القطع معروف والمصدر في الرحم القطيعة، واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله فقيل الأرحام وموالاة

المؤمنين، وقيل وصل القول بالعمل لزوم الجماعات المفروضة، وقيل أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب البعض الآخر، وقيل المراد به حفظ شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة على ألسن رسله بالمحافظة عليها، وقيل سائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر، فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين عبده فهي عامة، وبه قال الجمهور وهو الحق، والأمر هو القول الطالب للفعل، وقيل مع العلو، وقيل مع الاستعلاء، وبه الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر فإنه مما يؤمر به.
(ويفسدون في الأرض) يعني بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه، فالمراد بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به كعبادة غيره، والإضرار بعباده، وتغيير ما أمر بحفظه، وبالجملة فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً فهو فساد، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل كان عملهم فساداً لما نقضوا أنفسهم من الفلاح والربح، وعن قتادة قال ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليوف به الله، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد والوعيد الشديد عليه.
(أولئك هم الخاسرون) أي المغبونون بإهمال العقل عن النظر، واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية، وأصل الخسار والخسران النقصان، والخاسر هو الذي نقص نفسه من الفلاح والفوز، قال مقاتل: الخاسرون هم أهل النار، وقال ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ومسرف وظالم ومجرم وفاسق فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذم.