خَيْرًا وَيَضُمُّ إِلَيْهِ مَا يُحْبِطُهُ فَيَجِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ بِحَالِ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْجَنَّةُ الْمَوْصُوفَةُ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ؟ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عمل؟ قال ابن عباس: لرجل عنى «١» يَعْمَلُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ عَمَلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِإِنْسَانِ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ آخِرِ عُمُرِهِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ عَمِلَ عَمَلَ السُّوءِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ قَالَ: رِيحٌ فيها سموم شديدة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٧ الى ٢٧١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
قَوْلُهُ: مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ أَيْ: مِنْ جَيِّدِ مَا كَسَبْتُمْ، وَمُخْتَارِهِ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ:
إِنَّ مَعْنَى الطَّيِّبَاتِ هُنَا: الْحَلَالُ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّ جَيِّدَ الْكَسْبِ وَمُخْتَارَهُ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَلَالِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَطْلَقَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى مَا هُوَ جَيِّدٌ فِي نَفْسِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، فَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ: وَمِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ النَّبَاتَاتُ وَالْمَعَادِنُ وَالرِّكَازُ. قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أَيْ: لَا تَقْصِدُوا الْمَالَ الرَّدِيءَ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ:
بِتَشْدِيدِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَلَا تَأْمَمُوا» وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ خَبَّابٍ: بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَحَكَى أَبُو عمرو: أن ابن مسعود قرأ: «تؤمّموا» بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمَضْمُومَةِ، وَفِي الْآيَةِ الْأَمْرُ بِإِنْفَاقِ الطَّيِّبِ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِنْفَاقِ الْخَبِيثِ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا تَعُمُّ صَدَقَةَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَسَيَأْتِي مِنَ الأدلة ما يؤيد هذا، وتقديم الظرف
فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ تُنْفِقُونَ يُفِيدُ التَّخْصِيصَ، أَيْ: لَا تَخُصُّوا الْخَبِيثَ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا تَقْصِدُوا الْمَالَ الْخَبِيثَ مُخَصِّصِينَ الْإِنْفَاقَ بِهِ، قَاصِرِينَ لَهُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، هَكَذَا بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ:
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ هُوَ مِنْ أَغْمَضَ الرَّجُلُ فِي أَمْرِ كَذَا: إِذَا تَسَاهَلَ وَرَضِيَ بِبَعْضِ حَقِّهِ وَتَجَاوَزَ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى كَمْ وَكَمْ أَشْيَاءُ مِنْكِ تُرِيبُنِي | أُغْمِضُ عَنْهَا لَسْتُ عَنْهَا بِذِي عَمَى |
وَالْفُقْرُ: لُغَةٌ فِي الْفَقْرِ، مِثْلُ الضَّعْفِ، وَالضُّعْفِ. وَالْفَحْشَاءُ: الْخَصْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَهِيَ الْمَعَاصِي، وَالْإِنْفَاقُ فِيهَا، وَالْبُخْلُ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْبَخِيلُ. انْتَهَى. وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي | عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ |
السَّتْرُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِذُنُوبِهِمْ وَكَفَّارَتِهَا، وَالْفَضْلُ: أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقُوا، فَيُوَسِّعَ لَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَيُنْعِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ وَأَجَلُّ وَأَجْمَلُ. قَوْلُهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَقِيلَ: الْفَهْمُ، وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَمِيعِ شُمُولًا أَوْ بَدَلًا وَقِيلَ:
إِنَّهَا النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْعَقْلُ وَقِيلَ: الْخَشْيَةُ وَقِيلَ: الْوَرَعُ، وَأَصْلُ الْحِكْمَةِ: مَا يَمْنَعُ مِنَ السَّفَهِ، وَهُوَ كُلُّ قَبِيحٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أَعْطَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَيْ: عَظِيمًا قَدْرُهُ، جليلا خطره. وقرأ الزهري ويعقوب: «ومن يؤت الْحِكْمَةَ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ، وَاحِدُهَا لُبٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، قَوْلُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ مَا: شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّذِي أَنْفَقْتُمُوهُ، وَهَذَا بَيَانٌ لحكم عام يشمل كل صدقة
مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ مَقْبُولَةٍ، وَكُلَّ نَذْرٍ مَقْبُولٍ أَوْ غَيْرِ مَقْبُولٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فِيهِ مَعْنَى الْوَعْدِ لِمَنْ أَنْفَقَ وَنَذَرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ، وَالْوَعِيدُ لِمَنْ جَاءَ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ مَعَ كَوْنِ مَرْجِعِهِ شَيْئَيْنِ، هُمَا: النَّفَقَةُ وَالنَّذْرُ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ثُمَّ حُذِفَ أَحَدُهُمَا اسْتِغْنَاءً بِالْآخَرِ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَقِيلَ: إِنَّ مَا كَانَ الْعَطْفُ فِيهِ بِكَلِمَةِ «أَوْ» كَمَا فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَكْرَمْتُهُ وَلَا يقال أكرمتها، والأولى أن يقال إن العطف بأو يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «١». وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«٢»، وَتَثْنِيَتُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «٣» وَمِنَ الْأَوَّلِ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا | لِمَا نسجتها مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ |
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا | عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ |
إِنْ تُظْهِرُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّ شَيْئًا إِظْهَارُهَا، وَإِنْ تُخْفُوهَا وتصيبوا بِهَا مَصَارِفَهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لَا فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَلَا فَضِيلَةَ لِلْإِخْفَاءِ فِيهَا، بَلْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِظْهَارَ فِيهَا أَفْضَلُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. قَوْلُهُ:
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وقتادة، وابن إسحاق: نكفر بالنون والرفع. وقرأ ابن عامر، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: بِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالْجَزْمِ. وقرأ الحسين ابن عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. فَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا بَعْدَ الْفَاءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مبتدأ محذوف. ومن يقرأ بِالْجَزْمِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا. وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَعَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالرَّفْعُ هَاهُنَا الْوَجْهُ الْجَيِّدُ، وَأَجَازَ الْجَزْمَ بتأويل: وإن تخفوها يكن الإخفاء خيرا
(٢). النساء: ١١٢.
(٣). النساء: ١٣٥.
(٤). التوبة: ٣٤.
لَكُمْ وَيُكَفِّرْ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ قَالَ الْخَلِيلُ. وَمَنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي: مِنَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: مِنَ الثِّمَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عن البراء ابن عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُطُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ فَيَأْكُلُ، وَكَانَ نَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ وَالْحَشَفُ وَبِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ، قَالَ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي أَحَدُنَا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ الْحَائِطَانِ فَيَنْظُرُ إِلَى أَرْدَئِهِمَا تَمْرًا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَخْلِطُ بِهِ الْحَشَفَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَعَابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ رَدِيءٍ فأمر النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الَّذِي يَخْرُصُ النَّخْلَ أَنْ لَا يُجِيزَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ هَذِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالصدقة، فجاء رجل بكبائس من هذه السخل: يعني: الشيص، فوضعه، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ جَاءَ بِهَذَا؟ وَكَانَ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ نُسِبَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ الْآيَةَ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لونين من التمر أن يوجدا فِي الصَّدَقَةِ: الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ «١». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ الرَّخِيصَ وَيَتَصَدَّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا الْآيَةَ، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَعْمِدُ إِلَى التَّمْرِ فَيَصْرِمُهُ فَيَعْزِلُ الْجَيِّدَ نَاحِيَةً، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَعْطَاهُ مِنَ الرَّدِيءِ. وَأَخْرَجَ ابن جرير،