آيات من القرآن الكريم

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ

ولما كان الإِيمان ممَّا ينطقُ به اللِّسان، ويعتقده القلبُ، حَسُن في الصفاتِ- سَمِيعٌ: من أجل النّطق، وعَلِيمٌ من أجْل المعتقَدِ.
قوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا... الآية: الوليُّ من: وَلِيَ، فَإِذا لازم أحدٌ أحداً بنَصْره، وودِّه، واهتباله، فهو وليُّه هذا عُرْفُهُ لغةً، ولفظ الآية مترتِّب في الناس جميعاً، وذلك أن منْ آمن منهم، فاللَّه وليُّه، أخرجه من ظلمة الكُفْر إِلى نور الإِيمان، ومَنْ كفر بعد وجودِ الرسول صلّى الله عليه وسلم فَشَيْطَانَهُ ومُغْوِيهِ أخرجه من الإِيمان إِذ هو معدٌّ وأهل للدخول فيه، ولفظ الطاغوت في هذه الآيةِ يَقْتَضِي أنَّه اسم جنْسٍ ولذلك قال: أَوْلِياؤُهُمُ بالجمع إذ هي أنواع.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٨ الى ٢٥٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ... الاية: أَلَمْ تَرَ: تنبيهٌ، وهي رؤية القَلْب، والَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، هو نُمْرَوذُ بْنُ كَنْعَانَ «١» مَلِكُ زمانه، وصاحبُ النَّار، والبَعُوضَةِ، قاله مجاهد وغيره «٢»، قال قتادة: هو أولُ من تجبَّر، وهو صاحبُ الصَّرْح بِبَابِلَ «٣»، قيل: إِنه مَلكَ الدُّنْيَا بأجمعها، وهو أحد الكَافِرَيْنِ، والآخر بُخْتَ نَصَّرَ «٤»، وقيل: إِن النُّمْرُوذَ الذي حاجَّ إِبراهيم هو نُمْرُوذُ بْنُ فَالخ، وفي قصص هذه

(١) وهو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك بابل الجبار، وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية. ينظر: «تفسير ابن كثير» (١/ ٣١٣)، و «الطبري» (٥/ ٤٣٠).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٥) برقم (٥٨٦٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٢٤١) بنحوه، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٥)، وعزاه لابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٦) برقم (٥٨٦٧)، وذكره ابن عطية (١/ ٣٤٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٤)، وعزاه لابن جرير.
(٤) «بختنصر البابلي» : كان في ابتداء أمره مسكينا صعلوكا مريضا عالجه رجل كان يقرأ الكتب من بني إسرائيل، أرسله ملك الفرس في عسكر إلى الشام، وأمّره عليهم، فساروا وغنموا وعادوا سالمين، فلما كثرت في بني إسرائيل الأحداث والمعاصي دخل بخت نصر وجنوده «بيت المقدس»، فقتل بني إسرائيل-

صفحة رقم 506

المحاجَّة روايتان.
إحداهما: ذكر زيْد بن أسْلم أنَ النُّمْروذ هذا قَعَدَ يأمر للنَّاس بالميرة «١»، فكلَّما جاء قومٌ، قال: مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكِمْ، فيقولُونَ: أَنْتَ، فيقولُ: مِيرُوهُمْ، وجاء إِبراهيم- عليه السلام-، يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ الشَّمْسِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ: لاَ تُمِيرُوهُ، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ دُونَ شَيْءٍ، فَمَرَّ على كَثِيبٍ رَمْلٍ كَالدَّقِيقِ، فَقَالَ: لَوْ مَلأْتُ غَرَارَتِي مِنْ هَذَا، فَإذَا دَخَلْتُ بِهِ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ حتى أَنْظُرَ لَهُمَا، فَذَهَبَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ، وَجَعَلاَ يَلْعَبَانِ فَوْقَ الغِرَارَتَيْنِ، وَنَامَ هُوَ مِنَ الإِعْيَاءِ، فَقَالَتِ امرأته: لَوْ صَنَعْتُ لَهُ طَعَاماً يَجِدُهُ حَاضِراً، إِذَا انتبه، فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ، فَوَجَدَتْ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحَوَارِيِّ، فَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا قَامَ: وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي سُقْتَ، فَعَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أنَّ اللَّه يسَّر لَهُمْ ذَلِكَ.
وقال «٢» الربيعُ وغيره في هذا القصص: إِن النُّمروذَ لَمَّا قال: أنَا أُحْيِي وأُمِيتُ، أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَتَل أحَدَهُمَا، وأَرْسَلَ الآخَرَ، وقَالَ: قَدْ أحْيَيْتُ هَذَا، وأَمَتُّ هذا، فردَّ علَيْهِ إِبراهيمُ بأمْرِ الشمْسِ «٣».
والروايةُ الأخرى: ذكر السُّدِّيُّ أنه لما خَرَجَ إِبراهيمُ من النَّار، وأُدْخِلَ على المَلِكِ، قالَ له: مَنْ ربُّكَ؟ قَالَ: ربِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ «٤».
يقالُ: بُهِتَ الرَّجُلُ، إِذا انقطعَ، وقامت عليه الحجّة.

- وخرب «بيت المقدس»، وعاد إلى «بابل»، وأقام في سلطانه إلى ما شاء الله. ينظر: «الكامل» لابن الأثير (١/ ٢٦١، ٢٦٦).
وانظر أقوال المفسرين: في «تفسير الثوري» (ص ٧١)، و «الدر» (١/ ٣٣١- ٣٣٣) عن علي، وابن عباس، وعكرمة، وقتادة، وسليمان بن بريدة، والضحاك، والسدي، وعبد الله بن سلام، وكعب، والحسن، ووهب. والطبري (٥/ ٤٣٩) عنهم، و «كنز العمال» (٢/ ٢٦٤)، وابن كثير (١/ ٣١٤) عن علي وغيره، و «فتح القدير» (١/ ٢٧٩).
(١) الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، قال ابن سيده: الميرة جلب الطعام، وفي التهذيب: جلب الطعام للبيع.
ينظر: «لسان العرب» (٤٣٠٦).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٧) برقم (٥٨٧٦) وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٣٤٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٨) برقم (٥٨٧٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٦). [.....]
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٨) برقم (٥٨٧٩) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١/ ٣١٣).

صفحة رقم 507

وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: إخبار لمحمّد صلّى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى:
لا يرشدهم في حججهم على ظُلْمهم، وظاهر اللفْظ العمومُ، ومعناه الخصوصُ لأنَّ اللَّه سبحانه قد يَهْدي بعْضَ الظالمينَ بالتَّوْبة والرجوع إِلى الإِيمان.
قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها... الآية: عطفت «أوْ» في هذه الآية على المعنى الَّذِي هو التعجُّب في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ.
٦٦ أقال ابن عبَّاس وغيره: الذي مَرَّ على القَرْيَة هو عُزَيْرٌ، وقال «١» / وهْبُ بن مُنَبِّهٍ وغيره: هو أَرْمِيَا «٢»، قال ابن إِسحاق: أَرْمِيَا هو الخَضِرُ «٣»، وحكاه النَّقَّاش عن وهْب بن منَبِّه.
واختلف في القَرْيَةِ، مَا هِيَ؟ فقِيلَ: المُؤْتَفِكَةُ، وقال زيْدُ بن أسلم: قريةُ الَّذين خَرَجُوا مِنْ ديارهم، وهم أُلُوفٌ «٤»، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ، وقتادة، والضَّحَّاك، والرَّبيع، وعِكْرِمَة: هي بَيْت المَقْدِسِ «٥»، لما خرَّبها بُخْتَ نَصَّرُ البابليُّ، والعَرِيشُ: سقْف البيتِ، قال السُّدِّيُّ: يقول: هي ساقطةٌ على سَقْفِها، أي: سقطت السقْف، ثم سقطت الحيطانُ عليها «٦»، وقال غيره: معناه: خاوية من الناس، وخاوية: معناه: خاليةٌ يقال: خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وخُوِيًّا، ويقال: خويت، قال الطبريُّ «٧» : والأول أفصح، قال ص:

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠) برقم (٥٨٩١) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٧)، وابن كثير في «تفسيره» (١/ ٣١٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٧)، وعزاه لابن جرير، وابن عساكر.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠) برقم (٥٨٩٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٧)، والماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٣١)، وابن كثير (١/ ٣١٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٩)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة».
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠) برقم (٥٨٩١)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٣١)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٧)، وابن كثير في «تفسيره» (١/ ٣١٤).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٢) برقم (٥٩٠٦)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٣١)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٧)، وقد ذكروا هذا الأثر عن ابن زيد.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣١) بأرقام (٥٩٠٠)، (٥٩٠١)، (٥٩٠٣)، بأسانيد مختلفة، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٢٤٣)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٩). وعزاه لابن جرير.
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٣) برقم (٥٩١٠). وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٩)، وعزاه لابن جرير.
(٧) ذكره الطبري (٣/ ٣٢).

صفحة رقم 508

وَهِيَ خاوِيَةٌ في موضع الحالِ من فَاعِلِ «مرّ» أو من «قرية» وعَلى عُرُوشِها: قيل:
على بابِهَا، والمعنى: خاويةٌ من أهلها، ثابتةٌ على عروشها، والبُيُوت قائمةٌ، والمَجْرور على هذا يتعلَّق بمحذوفٍ، وهو ثابتةٌ، وقيل: يتعلَّق ب «خَاوِيَة» والمعنى: وقعتْ جُدُرَاتُهَا على سقوفها بعْد سُقُوط السقوفِ. انتهى، وقد زدنا هذا المعنى وضوحاً في سورة الكهف، واللَّه الموفِّق بفضله.
وقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: ظاهر اللفظ السؤَالُ عن إِحياءِ القَرْيَة بعمارةٍ أو سُكَّانٍ، فكأنَّ هذا تلهُّفٌ من الواقِفِ المعتبر على مدينة أحبَّته، ويحتمل أنْ يكونَ سؤاله إِنما كانَ عن إِحياء الموتى، فضرب له المَثَل في نَفْسه، وحكى الطبريُّ «١» عن بعضهم أنَّ هذا القَوْلَ منه شك في قدرة اللَّه على الإِحياء قال ع «٢» : والصواب ألاَّ يتأول في الآية شكٌّ، وروي في قصص هذه الآية أنَّ بني إِسرائيل، لَمَّا أحدثوا الأحدَاثَ، بعث اللَّه عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، فقتَلَهُم، وجَلاَهم من بْيتِ المَقْدِسِ، وخرَّبه، فلَمَّا ذهب عنه، جاء عُزَيْرٌ أَوْ أزمِيَّا، فوقَف على المدينة معتبراً، فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماته اللَّه تعالى، وكان معه حمارٌ قد رَبَطَهُ بحَبْلٍ جديدٍ، وكان معه سَلَّة فيها تِينٌ هو طعامه، وقيل: تِينٌ وعِنَبٌ، وكانتْ معه رِكْوة «٣» من خَمْر، وقيل: من عصيرٍ، وقيل: قُلَّة من ماءٍ هي شرابُهُ، وبقي ميتاً مائةَ عامٍ، فروي أنَّه بَلِيَ، وتفرَّقت عظامه هو وحمارُهُ، وروي أنَّ الحمار بَلِيَ، وتفرَّقت أوصاله، دون عُزَيْرٍ.
وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثَهُ: معناه: أحياه، فسأله اللَّه تعالى بوسَاطَةِ المَلَكِ، كَمْ لَبِثْتَ على جهة التقرير، فقال: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال ابن جُرَيْج، وقتادة، والربيع: أماته اللَّه غدوة يَوْمٍ، ثم بعثه قُرْبَ الغروبِ، فظنَّ هو اليومَ واحداً، فقال: لَبِثْتُ يوماً، ثم رأى بَقِيَّةً مِن الشمْسِ، فَخَشِيَ أنْ يكون كاذباً، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فقيل له:
بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ «٤».
وقوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، أي: لم يتغيّر.

(١) ذكره الطبري (٣/ ٣٣).
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٣٤٨).
(٣) الرّكوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه. والجمع ركوات، وركاء. ينظر: «لسان العرب» (١٧٢٢).
(٤) أخرجه الطبري عن ابن جريج، قتادة، الربيع (٣/ ٣٨) بأرقام (٥٩١٥)، (٥٩١٦)، (٥٩١٧)، (٥٩١٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٥٨٩)، وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.

صفحة رقم 509

ت: قال البخاريُّ في «جامعه» : يَتَسَنَّهْ: يتغيَّر.
وأمَّا قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، فقال وهْبُ بن منَبِّه وغيره: المعنى: انظر إِلى اتصال عظامِهِ، وإِحيائه جُزْءاً جُزْءاً «١»، ويروى أنه أحياه اللَّهُ كذلك حتى صار عظَاماً ملتئِمَةً، ثم كساه لَحْماً، حتى كمل حماراً، ثم جاء ملَكٌ، فنفَخَ في أنْفِهِ الرُّوح، فقام الحمارُ ينْهَقُ.
ورُوِيَ عن الضَّحَّاكِ، ووهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أيضاً أنهما قالا: بل قيلَ لَهُ: وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه، لم يُصِبْهُ شيء مِائَةَ سَنَةٍ، قالا: وإِنما العظامُ التي نَظَر إِلَيْها عظامُ نَفْسِهِ، وأعمى اللَّه العُيُون عنه، وعن حِمَاره طُولَ هذه المُدَّة «٢»، وكثّر أهل القصص في ٦٦ ب صورة هذه النَّازلة تَكْثيراً اختصرته، / لعدم صحته.
وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، قال ع «٣» : وفي إِمَاتَتِهِ هذه المُدَّةَ، ثم إِحيائِهِ- أعظمُ آية، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر.
ت: قال ابن هِشَامٍ: لا يصحُّ انتصاب «مِائَة» ب «أَمَاتَهُ» لأن الإِماتة سلْبُ الحياة، وهي لا تمتدُّ، وإِنما الوجْهُ أنْ يضمَّن «أَمَاتَهُ» معنى «أَلْبَثَهُ»، فكأنه قيلَ: فألبثه اللَّه بالمَوْت مِائَةَ عامٍ وحينئذٍ يتعلَّق به الظرف. انتهى من «المُغْنِي».
ومعنى «نُنْشِرُهَا»، أي: نُحْيِيها، وقرأ حمزةُ وغيره: «نُنْشِزُهَا» «٤» ومعناه: نرفعها، أي: ارتفاعا قليلاً قليلاً فكأنه وَقَفَ على نباتِ العظامِ الرُّفَاتِ، وقال النَّقَّاشُ: نُنْشِزُهَا:
معناه: نُنْبِتُهَا، ومِنْ ذلك: نَشَزَ نَابُ البعير.

(١) أخرجه الطبري بنحوه (٣/ ٤٢) برقم (٥٩٣٩)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٥٠).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٢) برقم (٥٩٣٩) بنحوه، عن وهب بن منبه، وبرقم (٥٩٣٩) عن الضحاك، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٣٥٠). [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ٣٥٠).
(٤) وحجتهم أن العظام إنما توصف بتأليفها وجمع بعضها إلى بعض إذ كانت العظام نفسها لا توصف بالحياة، لا يقال: قد حيّ العظم. وإنما يوصف بالإحياء صاحبها.
وحجة أخرى، وهي قوله سبحانه: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً دل على أنها قبل أن يكسوها اللحم غير أحياء، فلما قال: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً علم بذلك أنه لم يحيها قبل أن يكسوها اللحم.
ينظر: «السبعة» (١٨٩)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ٣٧٩)، و «معاني القراءات» (١/ ٢٢٢)، و «إعراب القراءات» (١/ ٩٦، ٩٧)، و «العنوان» (٧٥)، و «حجة القراءات» (١٤٤)، و «شرح شعلة» (٢٩٥)، و «شرح الطيبة» (٤/ ١١٨)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٤٩).

صفحة رقم 510
الجواهر الحسان في تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية