
العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، وقال: الطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، من عبد وهو راض، من دعا الناس إلى عبادة نفسه، من ادعى شيئا من علم الغيب، من حكم بغير ما أنزل الله.
قصة النّمروذ الملك
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
الإعراب:
رَبِّهِ الهاء تعود على الذي وهو نمروذ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن آتاه الله، فحذف اللام فاتصل الفعل به. والهاء في آتاهُ فيها وجهان:
إما أن تكون عائدة على إبراهيم، أي: أن آتى الله إبراهيم النبوة، وإما أن تعود على الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ وهو نمروذ الذي خاصم إبراهيم لأن آتاه الله الملك. إِذْ قالَ إذ: ظرف زمان والعامل فيه تَرَ. والياء في رَبِّيَ يجوز فيها التحريك والإسكان، فمن حركها شبهها بالكاف في رَأَيْتَكَ، ومن سكّنها استثقل الحركة عليها، لأن الحركات تستثقل على حرف العلة.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ الاستفهام للتعجب، والرؤية قلبية.
يُحْيِي وَيُمِيتُ عبر بالمضارع لأنه يفيد التجدد والاستمرار. وصيغة رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ تفيد القصر لورود المبتدأ والخبر معرفتين، أي أنه تعالى وحده هو الذي يحيي ويميت.
ويوجد طباق بين يحيي ويميت أو بين المشرق والمغرب.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ يشعر التعبير بأن العلة وسبب الحيرة هو كفره، ولو قال: فبهت الكافر لما أدى ذلك المعنى.

المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ الاستفهام للتعجب والإنكار حَاجَّ جادل أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي حمله بطره بنعمة الله على ذلك وهو نمروذ.
فَبُهِتَ تحير ودهش،
وفي الحديث: «إن اليهود قوم بهت»
، الظَّالِمِينَ المعرضين عن قبول الهداية بالنظر فيما يؤدي إلى الحق.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى فيما سبق أن الله ولي الذين آمنوا، وأن الطاغوت ولي الكافرين، أعقبه بذكر نموذج للإيمان ونموذج للطغيان، ليبين تلك القضية ويشهد على صدقها وصحتها، وهو أن إبراهيم وفقه الله للأدلة التي تدحض الشبهات، وأن الملك عمي عن نور الحق، فكانت حججه متهافتة ساقطة، تتردد في ظلمات الشكوك والأوهام، فصارت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما «١».
التفسير والبيان:
ألم تعلم قصة النمروذ الملك الذي تجبر وادعى الربوبية وهو النّمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام ملك زمانه، وعارض إبراهيم في ربوبية الله «٢».
والذي حمله على المجادلة: هو الملك وما يعقبه من كبر وبطر وغرور، وهو ملك بابل، وقيل: إنه ملك زمانه، ملك الدنيا بأجمعها، قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران: فالمؤمنان: سليمان بن داود
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٣١٣

وذو القرنين، والكافران: نمروذ وبختنصّر «١». فالنمروذ الملك لم يشكر النعمة، بل أبطرته، وجعلته يطغى، مع أن النعمة مدعاة الشكر، فجعل ما كان سببا في الطاعة سببا في المعصية.
وهو في رأي ابن عباس ومجاهد وجماعة آخرين: صاحب النار والبعوضة، فهو الذي أضرم النار لإحراق إبراهيم عليه السلام، وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى: بأن فتح الله تعالى عليه بابا من البعوض، وبعثها على عسكره، فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، ودخلت واحدة منها في دماغه، فأكلته حتى صارت مثل الفأرة، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما «٢».
وكان قوم الملك يعبدون ملوكهم مع آلهتهم، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه، وان يعبده وآلهته.
وهذه قصة المجادلة «٣» :
حينما كسّر إبراهيم عليه السلام الأصنام التي تعبد من دون الله، وسفّه عقول عابديها، سأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته، فأجابه: ربي الذي يحيي ويميت فهو مصدر الحياة وسبب الممات، أي ينشئ الحياة والموت، فأنكر الملك الطاغية الذي كان أول من تجبر وقال: أنا أحيي بعض البشر بالعفو عمن حكم عليه بالإعدام، وأميت البعض الآخر بالقتل وتنفيذ الحكم المقرر عليه، وأحضر رجلين عفا عن أحدهما، وقتل الآخر، وأخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا وتركهم بدون طعام وشراب، ثم أطعم اثنين فحييا، وترك اثنين فماتا.
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٨٤
(٣) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص ٨١

وهذا أول السقوط والضعف في حجة النمروذ، لأن المراد في قول إبراهيم:
إنشاء الحياة وتكوينها بعد العدم، وإزالة الحياة القائمة لجميع الكائنات الحية من نبات وحيوان وغيرهما، لا مجرد التسبب في بقاء الحياة، وإعدامها لفئة من الناس حكم عليهم بالإعدام، فجواب النمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة.
ولما رأى إبراهيم مغالطة الطاغية وتجاهله المقصود من معنى الإحياء والإماتة، انتقل إلى حجة أخرى لا مجال فيها للمكابرة أو المغالطة، فقال: إن ربي الذي يمنح الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته المطلقة هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فإن كنت تدعي الربوبية، فغيّر نظام طلوع الشمس وغروبها، وائت بها من جهة المغرب.
فلم يجد من تولى كبره جوابا، ودهش وتحير، وأعجزته الحجة، وأفحمه إبراهيم، وغلبه وأسكته، وقطع حجته، ولم يمكنه، أن يقول: آنا الآتي بها من المشرق، لأن الواقع يكذبه.
والله لا يهدي الظالمين أنفسهم المعرضين عن قبول هداية الله إلى طريق الخير والفلاح أبدا، بل يطمس الله على قلوبهم وبصائرهم، ويفضح شأنهم في أحلك أوقات الشدة والأزمة أمام الملأ من الناس. وهذا يدل على أن عدم الهداية ليس للطائعين، وإنما للظالمين، والمراد: هداية خاصة، أو ظالمون مخصوصون «١».
وقد ذكر السّدّي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك، إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة، وكان ذلك نصرا لخليل الله إبراهيم بعد نصر، وهكذا تتوالى الانتصارات لأولياء الله وأصفيائه، وتتعاقب الهزائم لأعداء الله، وتبدو مواقف الخذلان لهم

لكل ناظر عاقل متأمل، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء ٢١/ ١٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل هذه الآية على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الله الملك والعزّ والرّفعة في الدنيا، وتدل أيضا على جواز أن ينعم الله على الكافرين في الدنيا، ثم يحرم منها في الآخرة، ولا يجد إلا النار. وتدل على إثبات المناظرة وصحة المجادلة في الدين وإقامة الحجة، وفي القرآن والسنة مواقف كثيرة من هذا الجدال، كما في قصة نوح عليه السلام مثلا: قالُوا: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود ١١/ ٣٢- ٣٥] إلى قوله: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ، لأن الجدال في الدّين لا يظهر فيه الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الكتاب، وباهلهم «١» بعد بيان الحجة.
وتجادل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم السقيفة وتدافعوا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، ثم تناظروا أيضا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده.
وفي قول الله عز وجل: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران ٣/ ٦٦] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر.
وأدب المجادلة محدد مرسوم في القرآن الكريم في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥].