
هذا الوجه هو ملحظ من قال: هي الصلوات الخمس، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، فكأنه أشار إلى أنّ المعطوف عين المعطوف عليه. إلّا أنه أتى بجملة تفيد التوصيف.
وقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ- في الصلاة- قانِتِينَ خاشعين ساكتين.
روى الشيخان «١» عن زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
يكلم أحدنا صاحبه بحاجته. حتى نزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت. هذا لفظ البخاريّ. ولفظ مسلم: عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وروى أبو يعلى عن ابن مسعود قال: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فمررت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّمت عليه، فلم يرد عليّ، فوقع في نفسي إنه نزل فيّ شيء، فلما قضى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاته قال: وعليك السلام- أيها المسلّم- ورحمة الله، إنّ الله يحدث في أمره ما يشاء، فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا.
وروى الطبرانيّ في (الأوسط) والإمام أحمد «٢» وأبو يعلى الموصلي في (مسنديهما) وابن حبان في (صحيحه) عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل حرف ذكر من (القنوت) في القرآن فهو الطاعة».
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
فَإِنْ خِفْتُمْ، أي: فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره فَرِجالًا، أي: فصلّوا راجلين، أي: ماشين على الأقدام- يقال: رجل- كفرح- فهو راجل، ورجل- بضمّ الجيم- ورجل- بكسرها- ورجل- بفتحها- ورجيل ورجلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه، والجمع رجال ورجّالة
ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣٥. [.....]
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٧٥.

ورجّال- كرمّان- أَوْ رُكْباناً، أي: راكبين، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة. وهذا من رخص الله تعالى التي رخّص لعباده، ووضعه الآصار والأغلال عنهم. وقد رويت صلاة الخوف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صفات مختلفة مفصّلة في كتب السنة، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يتحرى في كل موطن ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
قال الرازيّ: صلاة الخوف قسمان: أحدهما أن تكون في حال القتال- وهو المراد بهذه الآية والثاني: في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:
١٠٢].
وقد روى مالك «١» عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف، وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشدّ من ذلك صلّوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلّا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ورواه الشيخان.
ولمسلم «٢» أيضا عن ابن عمر قال: فإن كان خوف أشدّ من ذلك فصلّ راكبا أو قائما تومئ إيماء.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود «٣»، بإسناد جيّد، عن عبد الله بن أنيس الجهنيّ قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خالد بن سفيان الهذليّ- وكان نحو عرنة وعرفات- فقال: اذهب فاقتله، قال، فرأيته- وحضرت صلاة العصر- فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلّي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك، قال: إني لفي ذلك. فمشيت معه ساعة. حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد (وهذا نص أبي داود).
وأخرجه البخاريّ في: التفسير، ٢- سورة البقرة، ٤٤- باب قوله عز وجل فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، حديث ٥٤٧.
(٢) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٣٠٦.
(٣) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ٢٠- باب صلاة الطالب، حديث ١٢٤٩.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة ٤٩٦ من ج ٣.

وأخرج الطيالسيّ وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائيّ «١» وأبو يعلى والبيهقيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق فشغلنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك.
وذلك قوله: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: ٢٥]. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأقام لكلّ صلاة إقامة، وذلك قبل أن ينزل عليه فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً.
تنبيه:
هذه الآية قد أطلقت الخوف. فيدخل فيه أيّ مخافة من عدوّ أو سبع أو جمل صائل، وهذا قول الأكثر. وشذّ قول الوافي وبعض الظاهرية: إنّ الخوف مختص بأن يكون من آدميّ. وقد أفادت هذه الآية أن فعلها بالإيماء هو فرضهم، فلا قضاء عليهم بعد الأمن. قال في (التهذيب) خلاف ما يقوله بعضهم. ولكن هذا إذا أتوا بما يسمى صلاة فإن لم يمكنهم شيء من الأفعال، وإنما أتوا بالذكر فقط. فقال الناصر زيد وابن أبي الفوارس وأبو جعفر: هذا لا يسمى صلاة فيجب القضاء. وقال الراضي بالله والأمير الحسين: هو بعض الصلاة، فلا قضاء،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «٢» :«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وإذا ثبت الترخيص في هذه الصلاة- بترك كمال الفروض- رخص فيها بفعل ما تحتاج إليه، وبلباس ما فيه نجس إذا احتيج إليه- كذا في تفسير بعض علماء الزيدية.
فَإِذا أَمِنْتُمْ، أي: زال خوفكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ، أي: فصلّوا صلاة الأمن.
عبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها. وقوله كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، أي:
مثل ما علمكم من صلاة الأمن، أو لأجل إنعامه عليكم، فالكاف للتعليل. وهذه الآية كقوله تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: ١٠٣]. والفائدة في ذكر المفعول فيه، وإن كان الإنسان لا يعلم إلّا ما لم يعلم، التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقلوا عنها، فإنه أوضح في الامتنان.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الاعتصام، ٢- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حديث ٢٥٨٥ ونصه:
عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث ١٣٨
.