آيات من القرآن الكريم

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ

والذين هَاجَرُواْ}، الآية.
قوله: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾.
من قرأ بالثاء فقراءته مختارة، لأن الكثرة تشتمل على العظم واكبر، والكبر والعظم لا يشتمل على الكثرة فبالثاء أعم وأولى. وكل ما كثر فقد عظم وليس كل ما عظم بكثير، فوصف الإثم بالكثرة أبلغ من وصفه بالعظم، وقد قال تعالى: ﴿وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ [الفرقان: ١٤] وأيضاً فإن الإثم الأول بمعنى الأثام لقوله: " ومنافع " ولم يقرأ " ومنفعة ". والآثام فالبكثرة توصف أولى من العِظم. وأما الثاني فهو إجماع بالباء لأنه يراد به التوحيد لا الجمع.
ومن قرأ بالباء فحجته إجماعهم على ﴿أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ بالباء، أي

صفحة رقم 714

أعظم. وقوله: ﴿حُوباً كَبِيراً﴾ [النساء: ٢]، وقول العرب: " إِثْمٌ صَغِيرٌ "، يدل على جواز " كبير " وحُسْنِه وترك استعمالهم " الإثم قليل "، يدل على بعد " كثير ". وأجماع المسلمين على قولهم: " صغائر وكبائر "، يدل على حسن " كبير ". ونزلت الآية جواباً لمن سأل النبي [عليه السلام] عن الخمر والميسر.
والخمر: ما خامر العقل أي ستره، فكل شراب ستر العقل وأحاله فهو خمر، يقال: " دخل فِي خِمَارِ النَّاسِ " أي هو مستتر في الناس، ويقال للضبع: " خَامِرِي أُمِّ عَامِر "، أي استتري. وخمار المرأة قناعها لأنه يسترها. وقوله: " اخْتَمَرَ الْعَجِينُ "، أي غطى فطورته الاختمار.
والميسر القمار سمي بذلك لما كانوا ييسرون من الجزور وغيرها للقمار عليها.
وقال مجاهد: " كل القمار من الميسر حتى لغب الصبيان بالجوز ".
وقال عطاء: " حتى لعب الصبيان بالكعاب ".

صفحة رقم 715

وقال القاسم: " كل ما أنهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر ".
قال ابن عباس: " كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قامر صاحبه ذهب بأهل الآخر وماله ".
وأشعار العرب: تدل على أن الميسر كان قماراً بينهم في الجزور خاصة.
وقيل: سمي ميسراً لأنهم كانوا يجزرون الجزور. وكل/ شيء جرزته فقد يسرته والياسر الجازر. وفقيل للضاربين بالقداح: ياسرون، لأنه سبب لتجزئة الجزور.
ويقال للضارب بالقداح " يَسَرٌ وأَيْسَارٌ ".
وقيل: إن " يَسْراً " جمع " لِيَاسِرٍ "، ثم يجمع " يَسَرٌ " على " أَيْسَارٍ " وكانت العرب أهل المقدرة منهم يقامرون على الإبل في الشدائد، ويجعلون لحومها للفقراء/ منهم لتعدل

صفحة رقم 716

أحوال الناس، ولذلك قال: ﴿ومنافع لِلنَّاسِ﴾ ".
والقداح التي كانوا يقامرون بها عشرة: منها سبعة ذوات خطوط، على كل واحد علامة يعرف بها، وهي: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى. ومنها ثلاثة لا خطوط فيها، يقال لها: " الأغفال/ والغفل من الدواب الذي لا سمة له؛ وهي: السفيح والمنيح، والوغد وليس لها سهام.
والسبعة الأول للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمبسل ستة، وللمعلى سبعة، وعلى كل واحد من العلامة على قدر ما له من الأنصباء.
وقوله: ﴿ومنافع لِلنَّاسِ﴾.
هي أثمانها وما كانوا يصيبون من الجزور.
﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾.
أي الإثم فيهما بعد التحريم أكبر من النفع قبل التحريم. قال سعيد بن

صفحة رقم 717

جبير " لما نزلت: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ﴾ كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنافع وهو الفرح الذي فيها حتى نزلت ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣]، فتركوها عند الصلاة حتى نزلت/ ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه﴾ [المائدة: ٩٠] فحرمت ".
فهذا يدل على أنها منسوخة بما في " المائدة ".
وروي أن عمر رضي الله عنهـ كان يقول: " اللهم بيّن لنا في الخمر "، فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر﴾ الآية، فقرئت ع ليه، فقال: [اللهم بين لنا في ال خمر بياناً شافياً، فإنها تذهب العقل والمال]، فنزلت ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ الآية التي في المائدة فقال عمر: انتهينا، انتهينا ".
فالخمر محرمة بنص القرآن لأن الله جل ذكره أخبرنا في هذه

صفحة رقم 718

السورة أن فيها إثماً كبيراً، وحرم تعالى اكتساب الإثم بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم﴾ [الأعراف: ٣٣] أي واكتساب الإثم. فهذا النص ظاهر في التحريم مع قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]. فهذا تهدد ووعيد؛ وذلك لا يكون إلا في المحرمات مع قوله: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣]، فتحريم المسكر منصوص بَيِّنٌ في كتاب الله [جل وعز]، وكل ما أسكر فهو خمر، لأن كل مسكر يخامر العقل، وكل ما خامر العقل فهو خمر وهو مسكر.
وإنما سميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه.
وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر، أي تغطي من الخمار الذي تغطى به.
وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر العقل، أي تستره من الخمار الذي يغطى به الرأس.

صفحة رقم 719

قوله: ﴿قُلِ العفو﴾. أي تتصدق بما فضل عن أهلك.
قال السدي: " كانوا يعملون كل يوم فيما فيه، فإن فضل في ذلك اليوم فضْلٌ عن العيال قدموه ".
وقال ابن عباس: " العفو ما لا يتبين/ خروجه من المال ".
وقال طاوس: " العفو اليسير من كل شيء ".
وقال اليزيدي: العفو هو ما أطلقته من غير أن تجهد فيه نفسك ".
وقيل: ما فضل عن أهلك.
وروي أن هذه الآية ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ نزل في رجل أتى إلى النبي [ ﷺ] فقال: " إن لي ديناراً "، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ. فقال: إن لي دينارين. فقال: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أهْلِكَ، فقال: إن لي ثلاثة، قال أَنْفِقْهَا عَلَى

صفحة رقم 720

خَادِمَكَ. [قال: إن] لي أربعة، قال: أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ، قال: إن لي خمسة. قال: أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قال: إن لي ستة، قال أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ".
يريد لي بالدينار غير الدينار، ولي اثنان غير الاثنين// وثلاثة غير الثلاثة، وكذلك ما بعده.
وقيل: العفو ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً. قاله عطاء والحسن وقال مجاهد: " العفو الصدقة عن ظهر غنى ".
وروي عن ابن عباس في حد العفو: " أمر النبي ﷺ [ أن يأخذ] ما أتوا به من قليل أو كثير.
وقال الربيع: " العفو/ ما طاب من المال ".
وقال قتادة: " العفو أفضل المال، وأطيبه أفضله ".

صفحة رقم 721

قال ابن عباس: " هي منسوخة بالزكاة ".
وقيل: إنما هي الزكاة، وليست منسوخة.
وقيل: إنما في التطوع، سألوا عنه فأجيبوا، فهي محكمة وليست بغرض.
قوله ﴿كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدنيا والآخرة﴾.
معناه: مثل ما بيك لكم الخمر والميسر وما فيهما يبين لكم الآيات لعلكم تتفكرون في نفاذ الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ونعيمها فتعملون للباقية منهما.
وقيل: معناه: لعلكم تتفكرون في فضل ما بينهما.
وقيل: / في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: " يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة "، أي في أمرهما لعلكم تتفكرون.
قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾.

صفحة رقم 722

كان سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ [النساء: ١٠]، انطلق من كان معه يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فكان يفضل الشيء من طعام اليتيم فيحبس له حتى يفسد فاشتد عليهم ذلك، فذكروا ذلك للنبي [عليه السلام]، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾. قاله ابن عباس وغيره.
وقيل: إنه لما نزل: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، اجتنب الناس مخالطتهم فنزلت ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، فخالطوهم.
﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾. أي يعلم حين تخلط مالك إلى مالك بماله، أتريد بذلك إصلاح ماله أو إفساده يريد الجنسين.
قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾. أي: لحرم عليكم مخالطتهم

صفحة رقم 723
الهداية الى بلوغ النهاية
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي
الناشر
مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة
سنة النشر
1429
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية