آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

واقتصر الإيجاب عليهم دون نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكرتهم الآية، لأن هؤلاء داخلون في الزكاة والتطوع،
وللحديث المرفوع عن أبي هريرة: «دينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أنفقته على أهلك، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا»
وعن ابن مسعود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله، كانت له صدقة».
فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٦ الى ٢١٨]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
الإعراب:
قِتالٌ بدل اشتمال من الشهر، والهاء في فِيهِ: تعود على الشهر، وبدل الاشتمال لا بد أن يعود ضمير منه إلى المبدل منه.
قُلْ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: الْقِتالُ: مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة، لأنه

صفحة رقم 257

وصفه بقوله: فيه، فتخصص، والنكرة إذا تخصصت جاز أن تكون مبتدأ. وكَبِيرٌ: خبر المبتدأ.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مبتدأ، وعطف عليه: وَكُفْرٌ بِهِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ، وخبر الثلاثة: أكبر عند الله.
البلاغة:
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي مكروه، وضع المصدر موضع اسم المفعول للمبالغة. وهناك ما يسمى في علم البديع بالمقابلة بين جملتي: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وقوله وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فيه ما يسمى طباق السلب.
المفردات اللغوية:
كُتِبَ فرض الْقِتالُ للكفار كُرْهٌ مكروه وَعَسى هنا للإشفاق لا للترجي، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر وَصَدٌّ منع للناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وَكُفْرٌ بِهِ بالله الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون أَكْبَرُ أعظم وزرا عِنْدَ اللَّهِ من القتال فيه. وَالْفِتْنَةُ أي فتنة المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم، حتى يهلكوا «١» وَمَنْ يَرْتَدِدْ يرجع حَبِطَتْ بطلت وفسدت في الدنيا والآخرة، فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها. والتقييد بالموت فَيَمُتْ على الردة يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام، لم يبطل عمله، فيثاب عليه ولا يعيده، كالحج مثلا، وهو مذهب الشافعي، ورأى مالك وأبو حنيفة: أنه يعيده آمَنُوا ثبتوا على إيمانهم وهاجَرُوا فارقوا أوطانهم وأهلهم وَجاهَدُوا من الجهد: وهو المشقة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه يَرْجُونَ يتوقعون النفع باتخاذ الأسباب رَحْمَتَ اللَّهِ أي ثوابه.
سبب النزول:
نزول الآية (٢١٦) :
قال ابن عباس: لما فرض الله الجهاد على المسلمين شق عليهم وكرهوا، فنزلت هذه الآية.

(١) هذا رأي الجمهور، وهو أن ذلك أشد إجراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقال مجاهد وغيره:
الفتنة هنا: الكفر أو الشرك، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك.

صفحة رقم 258

نزول الآية (٢١٧) :
أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رهطا وبعث عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فلقوا ابن الحضرمي، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ
فسبب نزولها قصة عبد الله بن جحش باتفاق المفسرين.
وقال المفسرون: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليترصدوا عيرا «١» لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون معه، فقتلوه وأسروا اثنين، واستاقوا العير، وفيها عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وتجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب، وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لهم عند ما قدموا عليه: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأوقف توزيع الغنيمة، وقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم «٢».
وقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرا، فليس لهم أجر، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآية.
المناسبة:
ذكرت أحكام القتال بعد أحكام الصدقة (نفقة التطوع) لما بينها من الصلة

(١) العير: الإبل التي تحمل الميرة.
(٢) أسباب النزول للواحدي بتصرف وإيجاز: ص ٣٦- ٣٨

صفحة رقم 259

الوثيقة، فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال، والمال قرين الروح، والإنفاق جهاد بالمال، فناسب أن يذكر الجهاد الذي هو أسمى من بذل المال، لأنه يستقيم به الدين، ويحتاج إلى بذل المال والنفس.
التفسير والبيان:
فرض عليكم معشر المسلمين قتال الكفار، فرض كفاية إن تحققت الحاجة، فإن لم تتحقق ودخل العدو بلاد المسلمين، كان فرض عين. قال الجمهور: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، ثم استمر الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام، فيكون فرض عين. وقال عطاء: فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما استقر الشرع، صار على الكفاية «١».
والقتال مكروه لكم وشاق عليكم طبعا، لما فيه من بذل المال وتعريض النفس إلى الهلاك، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان، فهو قد يرضى بتناول المرّ لما فيه من النفع. ولعلكم تكرهون شيئا طبعا، وفيه خير ونفع لكم فيما بعد، لأن فيه إما الظفر والغنيمة، أو الشهادة والأجر، ومرضاة الله، وفي الجهاد إعلاء كلمة الإسلام ورفع منارة الحق والعدل ودفع الظلم، ولعلكم تحبون شيئا كترك القتال، وهو في الواقع شر لكم، لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وتسلط الأعداء على بلاد المسلمين وأموالهم، واستباحة حرماتهم، وقد يؤدي ذلك إلى القضاء عليهم.
والله يعلم أنه خير لكم في عاجل أمركم، ولا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، وأنتم لقصور علمكم لا تعلمون ما يعلمه الله، فلا تركنوا إلى القعود عن واجب الجهاد، فإنه شر لكم، لأن الدنيا قامت على التدافع، وبادروا إلى ما يأمركم به ربكم، واحذروا الميل مع طباعكم وأهوائكم، فقد سبق في علم الله أنه سيظهر دينه

(١) البحر المحيط: ٢/ ١٤٣

صفحة رقم 260

وينصر أهله على قلتهم، ويخذل المبطلين على كثرتهم، كما قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤٩].
والله الذي فرض عليكم القتال يعلم أيضا أن هؤلاء الأعداء لا ينفع معهم إلا القتل والتشريد والإذلال، حتى لا يعودوا إلى الاعتداء على المسلمين أبدا.
وقد اختلف العلماء فيمن كتب عليهم القتال في هذه الآية:
فقال الأوزاعي وعطاء: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد.
وقال الجمهور: إن القتال فرض على جميع المسلمين بحسب الحاجة أو الحال، فإن كان الإسلام غالبا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو غالبا فهو فرض على الأعيان، حتى يتحقق النصر. وهذا هو الراجح،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
وهذه الآية أول آية فرض فيها القتال، وذلك في السنة الثانية للهجرة، إذ كان القتال على المسلمين محظورا في مكة، ثم أذن الله لهم في مقاتلة المقاتلين من المشركين بعد الهجرة إلى المدينة، بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج ٢٢/ ٣٩]، ثم أبيح القتال لكل المشركين، ثم فرض الجهاد.
وأحدثت قضية قتل الحضرمي على يد سرية عبد الله بن جحش اضطرابا وتساؤلا، حكاه القرآن، فقال تعالى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام وهو رجب، هل هو حلال أو حرام؟.
فقل لهم: نعم، القتال فيه كبير الإثم والجرم وهو أمر مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ، ولكن صد قريش عن سبيل الله بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، والكفر

صفحة رقم 261

بالله، والصد عن المسجد الحرام (مكة) بمنع المسلمين من الحج والعمرة، وإخراج أهله من مكة وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، كل ذلك أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام، والفتنة أشد من القتل، فأعمالهم المنكرة وفظائعهم الوحشية مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم أكبر بكثير من قتل الحضرمي، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخف الضررين وأهون الشرين.
وما يزال أولئك المشركون أو الكفار على الشر والمنكر وقتال المسلمين حتى يردوهم عن دينهم، ويحاولوا استئصال الإسلام من قلوبهم. ومن يوافقهم ويرتد عن دينه، ويموت كافرا ولا يتوب بالرجوع إلى الإسلام، فقد بطل عمله، وذهب ثوابه وأجره، وصار هباء منثورا، وأصبح من أهل النار خالدا فيها، وهذا جزاء الكافرين المرتدين.
وأما المجاهدون في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأمثاله، فهم الذين صدقوا بالله ورسله، وفارقوا الأهل والأوطان، وتركوا مساكنة المشركين في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فهاجروا خوفا من الفتنة في الدين، ولإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وحاربوا في سبيل الله، ولحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك يطمعون في رحمة الله، وأولئك هم الكمّل، فالله يجازيهم أحسن الجزاء، ويستر ذنوبهم، ويرحمهم بفضله وإحسانه، وهو الغفور الرحيم بهم وبأمثالهم.
هذا المعنى على أن السائلين من الصحابة.
وهناك رواية أخرى «١» : وهي أن وفدا من المشركين سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام، وحينئذ يكون المعنى: أن المشركين متناقضون، يتمسكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن

(١) اختلف في السائلين عن ذلك، فقال الحسن البصري وغيره: إن الكفار هم الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة العيب على المسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقال آخرون: المسلمون سألوا عن ذلك، ليعلموا كيف الحكم فيه (أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٣٢٢).

صفحة رقم 262

سبيل الله، والكفر بالله، والمنع من المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وفتنتهم المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أن الجهاد فرض، وهو امتحان للمؤمن، وطريق إلى الجنة، ويراد به قتال الأعداء من الكفار، ولم يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم في القتال مدة إقامته بمكة ثلاثة عشر عاما، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج ٢٢/ ٣٩] ثم أذن له في قتال المشركين عامة.
وإنما كان الجهاد كرها، لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشّجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية:
إنهم كرهوه ثم أحبّوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب، هان في جنبه مقاساة العذاب، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.
وبالرغم من كراهة الجهاد لما فيه من المشقة، فإنه سبيل العزة والغلبة والنصر، أو الشهادة، وعند ما ترك المسلمون الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، وتفرقت كلمتهم، وتشتتت وحدتهم، استولى العدو على بلادهم في الأندلس وفلسطين وغيرهما.
ودلت الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، لأن آية القتال عامة وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاص.
ولكن الجمهور على نسخ هذه الآية، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، والناسخ في قول الزهري: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة ٩/ ٣٦] أو:

صفحة رقم 263

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩].
وقال المحققون: نسخها قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] يعني أشهر التسيير في آية فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة ٩/ ٢] فلم يبق لهم حرمة إلا لزمان التسيير.
ويؤيدهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس «١» لمحاربة المشركين، وكان ذلك في الشهر الحرام.
قال ابن العربي: والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفتنة- وهي الكفر- في الشهر الحرام أشد من القتل، فإذا فعلتم ذلك كلّه في الشهر الحرام، تعيّن قتالكم فيه «٢».
والأشهر الحرم: هي رجب، وذو القعدة وذو الحجّة والمحرم، ثلاثة سرد، وواحد فرد «٣».
وإن انتهاك حرمات المسلمين بفتنتهم عن دينهم وتعذيبهم وطردهم من ديارهم، وهي جرائم مادية محسوسة، أشد جرما من انتهاك حرمة الشهر الحرام، وهي مسألة معنوية.
ودلت آية وَلا يَزالُونَ على تحذير المؤمنين من شر الكفرة، بنحو دائم.

(١) هو أبو عامر الأشعري، ابن عم أبي موسى الأشعري. وأوطاس: واد في ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين.
(٢) أحكام القرآن: ١/ ١٤٧
(٣) سرد أي تتابع، وهي ما عدا رجب، ورجب فرد مستقل، لأنه يفصل بينه وبين ذي القعدة ثلاثة أشهر، وهي شعبان ورمضان وشوال.

صفحة رقم 264

علة مشروعية القتال:
صرح القرآن الكريم بعلة مشروعية القتال، وهي فتنة المسلمين عن دينهم، فقال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة ٢/ ٢١٧] وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات أو بتعذيبهم، كما فعلوا بعمار بن ياسر وأسرته، وبلال، وخبّاب بن الأرت وصهيب وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بكيّ النار ليرجع عن دينه،
وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يمر به، فيرى أثر النار به كالبرص، وعذبوا أباه وأخاه وأمه، عن أم هانئ قالت: إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله، وسميّة أمه كانوا يعذبون في الله، فمرّ بهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة».
مات ياسر في العذاب، وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها- وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة- فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها، فلم تجبه لما يسأل، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي الله عنها، وكانت عجوزا كبيرة.
وكان أمية بن خلف يعذب بلالا ليفتنه عن دينه، فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزّى، فيأبى ذلك، وتهون عليه نفسه في سبيل الله عز وجل، وكانوا يعطونه للولدان، فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: «أحد، أحد».
وعذب خباب رضي الله عنه بإلقاء النار على ظهره.
بل إنهم آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوضعوا سلا الجزور (كرش البعير المملوء بالفرث) على ظهره، وهو يصلي عند الكعبة، حتى نحّته فاطمة

صفحة رقم 265

رضي الله عنها، وآذوه بأنواع أخرى كثيرة من الإيذاء، كفاه الله شرها، كما قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر ١٥/ ٩٥].
الارتداد والمرتد:
إن آية وَمَنْ يَرْتَدِدْ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. واتفق المسلمون على أن الردة تحبط أي تبطل الأعمال وتفسدها، وهل الإحباط مشروط بالموت «١» ؟.
أخذ الشافعي من الآية:... فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ: أن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة كافرا، وظاهر الآية يؤيده، ويدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر. ورأى مالك وأبو حنيفة: أن الردة بمجردها محبطة للعمل، حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام، اعتمادا على عموم قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر ٣٩/ ٦٥] وقوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام ٦/ ٨٨] وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة ٥/ ٥] وهذه الآيات في الردة فقط، وقد علق الحبوط فيها بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو مراد به أمته، لاستحالة الشرك عليه. أما آية وَمَنْ يَرْتَدِدْ.. الواردة هنا فرتبت حكمين:
الحبوط، والخلود في النار، ومن شروط الخلود: أن يموت على كفره.
ورأى الشافعية: أن آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ من باب التغليظ على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كما غلظ على نسائه في قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب ٣٣/ ٣٠].
وتظهر ثمرة الخلاف فيمن حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك وأبو حنيفة:

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٤٧- ١٤٨، تفسير القرطبي: ٣/ ٤٨ [.....]

صفحة رقم 266

عليه الحج، لأن ردته أحبطت حجه. وقال الشافعي: لا حج، لأن حجه قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.
وهل يستتاب المرتد قبل قتله؟
قال الحنفية: يستحب أن يستتاب المرتد، ويعرض عليه الإسلام، لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب، لأن دعوة الإسلام قد بلغته، ودليلهم أن بعض الصحابة قتلوا في عهد عمر رجلا كفر بالله تعالى بعد إسلامه، ولم يستتيبوه «١».
وقال الجمهور: تجب استتابة المرتد قبل قتله ثلاث مرات،
لأن امرأة يقال لها: «أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت»
«٢» وثبت عن عمر وجوب الاستتابة.
وأما ميراث المرتد: فلورثته من المسلمين في رأي علي والحسن البصري وجماعة. ولبيت المال في رأي مالك والشافعي وأحمد،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم» «٣».
وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء لبيت المال، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام، ثم ارتد، يرثه ورثته المسلمون.
وقال أبو يوسف ومحمد وابن شبرمة: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين.
وبعد معرفة حال المشركين وحكم المرتدين، بين تعالى جزاء المؤمنين المهاجرين «٤» والمجاهدين: وهو استحقاق الفوز والفلاح والسعادة، وإسباغ

(١) رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي.
(٢) رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر، وإسناده ضعيف.
(٣) رواه أحمد والأئمة الستة عن أسامة بن زيد.
(٤) الهجرة: معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقد كانت في مبدأ الإسلام فرضا من مكة إلى المدينة.

صفحة رقم 267
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية