
يحاسب في قَدْر حَلْبِ شَاةِ" (١).
٢٠٣ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ الأصحُّ أن هذه الأيام يرادُ بها: أيامُ التشريق (٢) وأيامُ رَمْي الجمار (٣)، سماها معدودات (٤) لِقِلَّتِهَا (٥)، كقوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠]. وجَمْعُها
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٦٠٩، وذكره الزيلعي في "آثار الكشاف" ١/ ١٢٨، والحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" ١/ ٢٤٩، وسكتا عليه، وقال المناوي في "الفتح السماوي" ١/ ٢٤٨: قال الولي العراقي: لم أقف عليه، وقال غيره: أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) سميت أيام التشريق بذلك؛ لأن الناس كانوا يشرقون اللحم تلك الأيام، وتشريق اللحم هو تقديده وبسطه في الشمس ليجف، وقيل: لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، أي: تطلع. ينظر: "النهاية" لابن الأثير ص ٤٧٥.
(٣) قد حكى جماعة كثيرة من العلماء الإجماع على أن المراد بالأيام المعدودات هي أيام منى، منهم: الماوردي في: "النكت والعيون" ١/ ٢٦٣، وابن عبد البر، نقله عنه القرطبي في "تفسيره" ٣/ ١، والجصاص في "أحكام القرآن" ١/ ٣٩٤، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" ١/ ١٧٨، والرازي في "تفسيره" ٥/ ٢٠٨، والقرطبي في "تفسيره" ٣/ ١. وقال النووي في "المجموع" ٨/ ٢٨١: نقل القاضي أبو الطيب والعبدري وخلائق: إجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق. وذكر الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٠٢ - ٣٠٣ هذا القول عن مفسري السلف، وقال: وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم أسند التفسير به عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وإبراهيم والحسن وقتادة والسدي والربيع ومالك والضحاك وابن زيد. ينظر: "الإجماع في التفسير" ٢١٦ وما بعدها.
(٤) زيادة من (ي).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٧٥.

على الألف والتاء يدل أيضًا على القلة، نحو: دُرَيْهِمَات وحمامات (١).
وروي أن حسان بن ثابت عرضَ شعره وهو صبي بعكاظ على النابغة وأنشده قوله:
لنا الجَفنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْن بالضُّحَى | وأسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دمَا (٢) |
والمراد بالذكر في هذه الأيام: التكبير أدبار الصلوات وعند الجمرات، يكبر مع كل حصاة (٤).
وأكثر العلماء على ما ذكرنا وهو أن الأيام المعدودات: أيام
(٢) البيت في "ديوانه" ص ٢٢١. "المقتضب" ٢: ١٨٨ "الكتاب" لسيبويه ٣/ ٥٧٨ "الخصائص" ٢/ ٢٠٦، "المحتسب" ١/ ١٨٧، والغُر: البيض، جمع غرّاء، يريد بياض الشحم، يقول: جفاننا معدة للضيفان ومساكين الحي بالغداة وأسيافنا تقطر بالدم، لنجدتنا وكثرة حروبنا.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٧٥ - ٢٧٦، وقد استشهد سيبويه في "الكتاب" ٣/ ٥٧٨ ببيت حسان على الجمع الكثير.
(٤) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٣٠٢، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٦١٤، "زاد المسير" ١/ ٢١٧.

التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر:
أولها: يوم القَرّ، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، يستقرُّ الناس فيه بمنى.
والثاني: يوم النَّفْر الأول؛ لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى.
والثالث: يوم الثالث عشر، وهو يوم النفر الثاني (١).
وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر، وأيام رمي الجمار (٢). وهي الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير أدبار الصلوات، يبتدأ مع الصبح يوم عرفة، ويختم مع العصر يوم الثالث عشر، وهو مذهب
(٢) كونها أياما لرمي الجمار لا خلاف فيه، وكونها أياما للنحر وقع فيه الخلاف على أقوال: الأول: أن آخر أيام النحر اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري. والثاني: أن آخر أيام النحر هو آخر أيام التشريق، روي عن علي، وبه قال عطاء والحسن، وهو مذهب الشافعي. والثالث: أن النحر في يوم النحر فقط وهو قول ابن سيرين. والرابع: أن آخرها لأهل الأمصار يوم النحر، ولأهل منى اليوم الثاني من أيام التشريق، وبه قال سعيد بن جبير وجابر بن زيد. والخامس: أن آخرها هلال المحرم، وبه قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يِسار. ينظر: "المغني" لابن قدامة ١٣/ ٣٨٦.

أمير المؤمنين علي (١)، رضي الله عنه، وهو أكمل المذاهب.
والأظهر من مذهب الشافعي رحمه الله أنه يبتدئ التكبيرَ من صلاة الظُّهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، اقتداءً بالحاجّ، قال: لأنهم يقطعون التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر، من صلاة الظهر، والصبح آخر صلاة يصليها الحاج، والناس لهم تبع (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ معناه: فمن تعجل في يومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه في تَعَجُّلِه، ومن تَأَخَّرَ عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى
(٢) ينظر: "الأم" ١/ ٢٧٥، "معرفة السنن والآثار" ٥/ ١٠٤، "المجموع" ٥/ ٣١، وقد وقع الخلاف في ابتداء التكبير عقب الصلوات المفروضات وانتهائه على ستة أقوال: الأول: ما ذكره المؤلف من مذهب علي، وبه قال عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود والثوري وأبو ثور، والشافعي في بعض أقواله، وأبو يوسف ومحمد، وهو مذهب أحمد لمن كان محلا، أما إن كان محرما فيبتدئ بالظهر من يوم النحر. الثاني أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود وعلقمة والنخعي وأبو حنيفة. الثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا قول للشافعي. ينظر: "زاد المسير" ١/ ٢١٧، "المغني" ٣/ ٢٨٨، "أحكام القرآن" لابن العربي ١/ ١٤٢، "تفسير القرطبي" ٣/ ٤.

نفر فيه، فلا إثم عليه في تأخُّرِه (١).
فإن قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل. فما بال المتأخر أُلحق به، والذي أتى أفضل؟
قيل: معناه: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فهو مبرور مأجور. فقال: (فلا إثم عليه) وهو يريد هذا المعنى لتوافق اللفظةُ الأولى الثانيةَ، وتكون على مثلِ سبيلها، وقد ذكرنا أنه حُمِلَ على موافقة اللفظ بما لا يصلح في المعنى (٢) وهو قوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ [الشورى: ٤٠]، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤]، فَلأَن يحمل على موافقة اللفظ بما يَصِحُّ في المعنى أولى؛ لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفيُ الإثم عنه.
وقيل: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه في استعماله الرخصة، ومن تأخر فَتَرْكُه استعمالَ الرخصةِ غيُر مؤثم له أيضًا.
وقيل: فمن تَعَجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه من آثامهما التي كانت عليهما قبل أن يَحُجَّا، يدل على صحة هذا الوجه: ما روى منصور (٣)، عن أبي حازم (٤)، عن أبي هريرة، عن النبي - ﷺ - قال: "من
(٢) في (أ) و (م): ليوافق اللفظ ما لا يصح في المعنى.
(٣) هو: منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب الكوفي، أحد الأئمة الثقات، وكان أثبتَ أهلِ الكوفة، اشتهر بالعبد والصلاح، ذكر العجلي أن فيه تشيعا قليلا وليس بمغال، توفي سنة ١٣٢ هـ ينظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٩٢، "تاريخ بغداد" ١١/ ١٢٠.
(٤) هو: سلمان أبو حازم الأشجعي الكوفي، روى عن ابن عمر وأبي هريرة، وروى =

حجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُق خرج من ذنوبه كيومِ ولدتْه أمه" (١).
وذهب بعض المتأولين: إلى أن المراد بوضع الإثم عنه المتعجلُ دون المتأخر، ولكن ذُكرا معًا والمراد أحدُهما، كقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] والجناح على الزوج؛ لأنه أخذ ما أعطى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٢٩] ومثل هذا قوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١]، نسب النسيان إليهما، والناسي أحدُهما، وقوله ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، وإنما يخرج من أحدهما (٢).
وقوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قال النحويون: المعنى: ذلك لمن اتقى، أي: طَرْح المآثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتَّقَيَا في حَجَّهما تضييع شيء مما حَدَّه الله وأمر به، حتى لا يظن أن من تعجل أو تأخر خرج عن الآثام دون أن يتقي، فيكون قوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ خبرًا لمبتدأ محذوف (٣)،
(١) أخرجه البخاري (١٨٢٠) كتاب الحج، باب: قول الله: ولا فسوق ولا جدال في الحج، ومسلم (١٣٥٠) كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة.
(٢) ينظر في ذكر هذه الأجوبة على هذا الإشكال الذي طرحه الواحدي: "تفسير الطبري" ٢/ ٣٠٥ - ٣٠٧، "زاد المسير" ٢/ ٢١٨، "التفسير الكبير" ٥/ ٢١٠ - ٢١١، "البحر المحيط" ٢/ ١١٢.
(٣) ينظر: "المحرر الوجيز" ٢/ ١٨٥، "التبيان" ص ١٢٦ - ١٢٧، وقال في "البحر المحيط" ٢/ ١١٢: قيل هو متعلق بقوله: واذكروا الله، أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: المعنى: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لئلا يختلج في قلبه شيء منهما فيحسب أن أحدهما آثام في الإقدام عليه،

وهذا معنى قول قتادة (١) وابن مسعود (٢)، وكان يقول: إنما جعلت مغفرة الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وكذلك كان يقرأ: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ (٣) (٤).
وقال ابن عباس في رواية العوفي والكلبي: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتَّقَيَا قَتْلَ الصيد، لا يحلُّ لأَحَدْ أن يَقْتُلَ صيدًا حتى تخلو أيام التشريق (٥)، فمتى (٦) لم يتقياه كان عليهما مأثم.
وقال أبو العالية: ذهب إِثْمُهُ كُلُّه إن اتقى فيما بقي من عمره (٧).
ومعناه: التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج والبر فيه، فبين أن عليهم مع ذلك ملازمةَ التقوى، ومجانبةَ الاغترار بالحال الأولى.
(٢) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٠٩، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٦٣.
(٣) من قوله: كان يقرأ القرآن... ساقطة من (م). وهذه العبارة وردت مكررة في (أ) وفي الأولى منهما (لمن اتقى الله حجه).
(٤) رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص ٢٩١، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٢٠٨ عن ابن جريج، وذكر القراءة: الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٦٢٦، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٢/ ١١٣.
(٥) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٠٩، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٦٣ كلاهما من غير طريق العوفي والكلبي، وفي "الدر المنثور" ١/ ٤٢٣، عزاه إلى سفيان بن عيينة وابن المنذر. رواية العوفي أخرجها الطبري ٢/ ٣٠٩، وذكرها الثعلبي ٢/ ٦٢٥، ورواية الكلبي ذكرها الثعلبي ٢/ ٦٢٥، وأخرجها ابن أبي حاتم ٢/ ٣٦٣، من طريق سفيان عن رجل قد سماه عن أبي صالح عن ابن عباس به.
(٦) في (ي) (فإذا).
(٧) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٠٨، وفي "الدر المنثور" ١/ ٤٢٥ عزاه إلى عبد بن حميد، وذكر النحاس في "معاني القرآن" ١/ ١٤٧، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٦٢٥.