
كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب ولا يخرج منه حتّى يحل من إحرامه، ويرون ذلك برا إلّا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النضر بن معاوية، سمّوا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة والشدة والصلابة قالوا: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل من الأنصار رجل يقال له زعامة بن أيوب، وقال الكلبي: قطبة بن عامر بن حذيفة أحد بني سلمة فدخل على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم دخلت من الباب وأنت محرّم؟
قال: رأيتك دخلت فدخلت على أثرك، فقال رسول الله: إليّ أحمس، قال الرجل: إن كنت أحمس: فإنّ أحمس ديننا واحد، رضيت بهديك وهمتك ودينك، فأنزل الله هذه الآية «١».
الزهري: كان ناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ويتحرجون من ذلك وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدوا له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ثمّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فيخرج إليه من بيته، حتّى بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة ودخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لم فعلت ذلك؟
قال: لأني رأيتك دخلت، فقال: لأني أحمس. [قال الزهري:] وكانت الحمس لا يبالون بذلك.
فقال الأنصاري: وأنا أحمس. يقول: وأنا على دينك فأنزل الله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها «٢».
قرأ حمزة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ونافع برواية تَأْتُوا الْبِيُوتَ بكسر الباء في جميع القرآن لمكان الياء.
وقرأ الباقون: بالضم على الأصل.
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي برّ من اتقى كقوله وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وقد مرّ ذكره وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها في حال الإحرام وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٣]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
(٢) تفسير الطبري: ٢/ ٢٥٦.

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ دين الله وطاعته الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.
قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أوّل آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقاتل من يقاتله ويكف عمن كفّ عنه حتّى نزلت: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فنسخت هذه الآية وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقي إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم
وهو قول ابن عبّاس ومجاهد.
وقال يحيى بن عامر: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. فكتب إليّ: إن ذلك في النساء والذرية والرهبان ومن لم ينصب الحرب منهم.
وقال الحسن: لا يعتدوا أي لا تأتوا ما نهيتم عنه.
وقال بعضهم: الاعتداء ترك قتالهم.
علقمة بن مرثد عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أمرا على سرية أو جيش أوصى في خاصة نفسه بتقوى الله وممن معه من المسلمين خيرا وقال: «اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا»
[٦٧] «١».
وعن عطاء بن أبي رباح قال: لما استعمل أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على الشام خرج معه يشيعه أبو بكر ماشيا وهو راكب فقال له يزيد: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: ما أنت بنازل ولا أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، إني أوصّيك وصية إن أنت حفظتها ستمر على قوم قد حبسوا أنفسهم في الصوامع زعموا لله فزعهم وما حبسوا له أنفسهم، وستمر على قوم قد فحصوا عن أوساط رؤسهم وتركوا من شعورهم أمثال العصائب، فاضرب ما فحصوا منه بالسيف.
ثمّ قال: «لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا تعقروا شجرا مثمرا ولا تغرقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تذبحوا بقرة ولا شاة إلّا لمأكل ولا تخربوا عامرا» [٦٨] «٢».
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن
(٢) السنن الكبرى للبيهقي: ٩/ ٩٠ بتقديم وتأخير.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثمّ صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلي له بكل عام قابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فصالحهم رسول الله ثمّ رجع من فوره ذلك إلى المدينة فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا يفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ محرمين الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعني قريشا وَلا تَعْتَدُوا ولا تظلموا فتبدؤا في الحرم بالقتال محرمين.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
ثمّ قال وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم وأصل يثقف بحذف والبصر بالأمر، يقال: رجل ثقف لقف إذا كان حاذقا في الحرب بصيرا بمواضعها جيد الحذر فيه، فمعنى الآية: واقتلوهم حيث أبصرتم مقابلتهم وتمكنتم من قتلهم.
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعني مكّة وَالْفِتْنَةُ يعني الشرك أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يعني وشركهم بالله عزّ وجلّ أعظم من قتلكم إياهم في الحرم والحرم الإحرام، قاله عامّة المفسّرين.
وقال الكسائي: الفتنة هاهنا العذاب وكانوا يعذبون من أسلم.
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف ويحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي:
يَقْتُلُوكُمْ بغير ألف من القتل على معنى لا تقتلوا بعضهم.
تقول العرب: قتلنا بني فلان وإنّما قتلوا بعضهم، لفظه عام ومعناه خاص.
وقرأ الباقون: كلها بالألف من القتال، واختلفوا في حكم هذه الآيات.
فقال قوم: هي منسوخة ونهوا عن الابتداء بالقتال، ثمّ نسخ ذلك بقوله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذا قول قتادة والربيع.
مقاتل بن حيان: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي حيث أدركتم في الحل والحرم، لما نزلت هذه الآية نسخها قوله وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثمّ نسختها آية السيف في [براءة] فهي ناسخة ومنسوخة.
وقال آخرون: هذه الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين.
كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا عن القتال والكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما سلف