آيات من القرآن الكريم

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﲿ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

ويلوح لنا خاطر في صدد (السؤال عن الأهلّة) إذا كان أراد السائل حقا كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه. وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم. فالسائل سأل عن السرّ فأجيب بما هو مفيد له وللناس من حكمة ذلك وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية «١».
والشطر الثاني من الآية ينطوي على إلغاء ذلك التقليد لما فيه من مشقة وعبث لا فائدة له. مقررا أنه ليس فيه شيء من البرّ، ومنبها إلى أن تقوى الله هي الجوهرية ووسيلة البرّ والفلاح الحقيقة.
وهذا متسق مع ما شرحناه في سورة الحج من حكمة الإبقاء على تقاليد الحج القديمة حيث ألغي منها ما فيه قبح أو عبث وجرّد ما أبقي عليه من شوائب الوثنية والشرك.
وهكذا يكون قد انطوى في هذا الشطر وهو يلغي هذا التقليد حكمة تشريعية من جهة وتلقين جليل مستمرّ المدى بأن الجوهري والبرّ الحقيقي عند الله هو تقواه والتزام حدوده دون الأشكال والأعراض والمظاهر، وهو ما انطوى في آيات عديدة سبق تفسيرها وبخاصة آية سورة البقرة [١٧٧].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥).

(١) رأينا القاسمي يورد هذا الخاطر أيضا ولم نكن اطلعنا عليه قبل.

صفحة رقم 325

(١) حيث ثقفتموهم: الثقف في اللغة: الحذق والإصابة. والكلمة هنا بمعنى حيث وجدتموهم أو أصبتموهم وقدرتم عليهم.
(٢) الحرمات: هنا بمعنى الأماكن والظروف المحرّمة دينيا.
في الآيات:
١- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
٢- ونهي عن العدوان بدءا وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
٣- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
٤- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
٥- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
٦- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
٧- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
٨- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
٩- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
١٠- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام

صفحة رقم 326

أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وعليهم في هذه الحال أيضا أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
١١- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين لأن في التقصير فيهما تعريضا لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وما بعدها إلى آخر الآية [١٩٥]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريرا حيث قالت إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقا للحرمة من القتل والقتال فيهما.
ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلّى الله عليه وسلّم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في

صفحة رقم 327

شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصا لهم.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جوابا على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي:
١- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
٢- عدم جواز بدئهم أحدا غير عدو وغير معتد بقتال.
٣- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
٤- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد وشرط ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
٥- واجب الإنفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعا للاشتباك الفعلي وحيث يكون التقصير في ذلك معرضا للتهلكة والخطر.

صفحة رقم 328

٦- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سببا مبررا لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادىء في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءا أو عدوانا لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [٣٩- ٤٣] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله والردّ على البغاة المعتدين لنقول إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لردّا آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضا مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتىء القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجابا، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة

صفحة رقم 329

أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق- وهذا ما تعنيه جملة: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على ما ذكره المؤولون- عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاء للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيدا حيث قال له: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا النساء: [٨٤] وإن جملة: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة: [١٩٥] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة» «١». وفي سورة التوبة هذه الآية:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) وتنطوي على صورة مألوفة دائما وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائما وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة

(١) هذه الرواية يرويها أصحاب السنن أيضا بهذه الصيغة الجليلة المغزى عن أسلم النجيبي قال: «كنا بمدينة الروم فبرز لنا صف عظيم منهم وخرج من المسلمين لهم مثلهم أو أكثر فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّا إن أموالنا قد ضاعت وإن الله أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه الآية يرد علينا قولنا حيث عنت أن الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو هو التهلكة. وما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى استشهد ودفن في أرض الروم». التاج ج ٤ ص ٥١.

صفحة رقم 330

مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه موالاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [٢٦١] وآية سورة الحجرات [١٥] وآية سورة محمد [٣٨] وآية سورة التوبة [٨٨] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [١٩٠] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي: (ومن ألقى إليكم السلم وكف يده) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة: وَلا تَعْتَدُوا تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري- الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلا لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [٩٠- ٩١] وسورة الممتحنة [٨- ٩] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين «١» عزوا إلى بعض التابعين أن كلمة وَالْفِتْنَةُ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير فَإِنِ انْتَهَوْا يعني الانتهاء عن الشرك، وأن الآيات تأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين إلى أن يسلموا ويزول الشرك إطلاقا. وروح الآيات ومضمونها لا يساعدان على هذا لأنها تأمر المسلمين بقتال من يقاتلهم مع عدم الاعتداء من جهة، وعدم القتال عند المسجد الحرام أو في الشهر الحرام إلا إذا قوتلوا فيهما من جهة، وبمقابلة العدوان بمثله وظروفه والوقوف عند هذا الحد من جهة. وبعبارة أخرى إن المسلمين غير مأمورين فيها بالاستمرار في القتال إلى أن يسلم الأعداء أي أن يصبحوا مسلمين.
وهذا مؤيد بآيات عديدة وبروايات عديدة معا تتضمن تقرير كون النبي صلّى الله عليه وسلّم

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

صفحة رقم 331

هادن وعاهد بعض المشركين ومنهم العدو المعتدي بدءا الذي أمر بقتالهم. فمن الآيات آية سورة النساء التي أوردناها آنفا. وآية التوبة هذه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) وهذه: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) ومن حوادث السيرة اليقينية صلح الحديبية بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وقريش الذين كانوا في حالة عداء وحرب.
أما التأويل الأوجه المستلهم من روح الآيات القرآنية لجملة: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فيما يتبادر لنا هو قتالهم حتى نضمن حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المستجيبين إليها، ولجملة فَإِنِ انْتَهَوْا التي تأتي بعد هذه الجملة بخاصة هو انتهاء المشركين من موقف العداء والبغي وإخلائهم بين الناس وحرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين.
وقد قيدنا الجملة بالتي وردت في الآية [١٩٣] لأن جملة فَإِنِ انْتَهَوْا في الآية [١٩٢] قد تكون حقا بمعنى (فإن أسلموا) بقرينة جملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التي جاءت بعدها. ولسنا نرى في هذا نقضا لقولنا الأول إذا اعتبرنا الآيات جميعها (وحدة) حيث يصح القول إن الآيات أمرت المسلمين بالاستمرار في قتال الذين يقاتلونهم حتى يسلموا أو ينتهوا من موقف البغي والعدوان. ويقوم بينهم وبين المسلمين عهد سلم وسلام. وفي سورة الأنفال آيات فيها نفس الحالتين على ما يتبادر لنا وهي: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)، وهذه الآيات نزلت بعد وقعة بدر.
واستمرت حالة الحرب قائمة بين المسلمين وكفار قريش الذين عنتهم إلى السنة

صفحة رقم 332

السادسة فعقد النبي صلّى الله عليه وسلّم بينه وبينهم صلحا زالت به هذه الحالة، ولو كانت الآيات بسبيل الأمر بالاستمرار إلى أن يسلموا لما وقع ذلك كما هو المتبادر.
ومن الجدير بالذكر أن كلمة (الفتنة) واشتقاقاتها قد تكررت في القرآن بمعان عديدة غير أنها لم تأت بمعنى الشرك بصراحة أو دلالة واضحة. وقد جاءت بخاصة بمعنى إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم مثل آية سورة البروج هذه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) وآية سورة النحل هذه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) وهذا المعنى هو المقصود فيما نعتقد في الآيات وبه يتضح معنى الجملة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ في الآية [١٩١] أي أن إجبار المسلمين على الارتداد عن دينهم بخاصة في الشهر الحرام والمسجد الحرام هو أشد نكاية من القتل والقتال وأشد خرقا لحرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام وأكثر تبريرا للقتال فيهما. حتى لو سلمنا جدلا أن الآية تأمر بقتال الأعداء حتى ينتهوا عن شركهم ويسلموا فإن ذلك يكون بالنسبة للأعداء الذين يقاتلون المسلمين والذين يحق للمسلمين أن يحددوا الشروط التي يكفون بها عنهم ولا يمكن أن يعني قتال كل مشرك بدءا حتى يسلم إذا لم يقاتل المسلمين مما أيدته وقائع السيرة النبوية تأييدا قاطعا، وقد قلنا (ولو سلمنا جدلا) للمساجلة وحسب. وفي صلح النبي صلّى الله عليه وسلّم للمشركين المسمى بصلح الحديبية دليل قاطع على أن الجملة لم تكن تعني إيجاب قتال المشركين والكفار حتى يسلموا.
ولقد قال المفسرون «١» : إن التحديدات والشروط الواردة في الآيات قد نسخت بآيات أخرى جاءت في سورة التوبة وأمرت بقتال المشركين إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مثل هذه الآية: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

صفحة رقم 333

وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) ومثل هذه الآية: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١). والذي يتمعن في سياق الآيتين يجد أنهما في موضوع الذين عاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم نقضوا وغدروا وحسب وإن الله قد حدد الشرط الذي يجب أن يتحقق للكفّ عنهم نتيجة لنقضهم وغدرهم. ويورد المفسرون جملة وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً الواردة في آية سورة التوبة [٣٦] في معرض تأييد قولهم. مع أن لهذه الجملة تتمة تمنع ذلك وهي: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ومما يؤيد قولنا آية سورة الممتحنة هذه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) وهذه الآية لا تحتوي تأييد ما نقوله فقط، بل وتحثّ على البرّ والإقساط لمن يقف من المسلمين موقف المسالمة والحياد من الكفار والمشركين إطلاقا. ومن الجدير بالذكر أنه لم يرو أي خبر بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل أو أمر بقتال مشركين مسالمين أو حياديين أو معتزلين أو رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين. والذي يدرس وقائع الجهاد في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم «١» يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع جماعة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأرا لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها أو بناء على نكث عهد أو مظاهرة للعدو وتآمر معه ضد المسلمين. ولو كان قتال كل كافر أو كل مشرك مبدأ إسلاميا قرآنيا أو نبويا لاقتضى أن يقاتل النبي كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنّه وموقفه وهذا لم يحصل إطلاقا لا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا في خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم).
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن بريدة حديثا جاء فيه: «إن

(١) انظر وقائع الجهاد وغزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم وسراياه في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد وفي الأجزاء ٢ و ٣ و ٤ من سيرة ابن هشام والجزء الثاني من تاريخ الطبري. [.....]

صفحة رقم 334

النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال له: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم.
ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحوّلوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة نبيه فلا تجعل لهم ذلك ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك. فإنّكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تقبل منهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» «١» ويلفت النظر في هذا الحديث جملة: (إذا لقيت عدوك من المشركين) حيث يتسق هذا مع تلقين الآيات التي نحن في صددها من أن القتال هو للعدو المقاتل وحسب «٢».
ولقد شرحنا هذا الموضوع في سياق تفسير سورة (الكافرون) وبسبيل تقرير ما احتوته السورة من حرية التدين في الإسلام شرحا وافيا أيضا فنكتفي هنا بما تقدم.

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٣٢٧- ٣٢٨.
(٢) هناك أحاديث نبوية في صدد عدم قتال وقتل النساء والأطفال والشيوخ، منها حديث رواه أبو داود عن أنس قال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: انطلقوا باسم الله وعلى ملّة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة». ومنها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فنهى عن قتل النساء والصبيان» التاج ج ٤ ص ٣٢٨. ومثل هذا مأثور في وصية أبي بكر رضي الله عنه حينما وجه الجيوش إلى الشام. انظر الموطأ ج ١ ص ٢٤٧.

صفحة رقم 335

تعليق على الشهر الحرام
وحرمة المسجد الحرام وأمنه قد أشير إليهما في آيات مكية عديدة ثم في بعض آيات من هذه السورة وسورة المائدة وقد علقنا عليها في تفسير سورة قريش بما فيه الكفاية.
غير أن الشَّهْرُ الْحَرامُ يذكر هنا لأول مرة، فنقول بمناسبة ذلك إن كلمة الْحَرامُ هي في نفس معناها بالإضافة إلى المسجد أي إنها تعني حرمة الشهر وتقديسه وأمنه وتحريم القتال فيه. وهذا المعنى منطو في الآيات التي ورد فيها التعبير في غير هذه الآيات في هذه السورة وغيرها من السور المدنية. وهذا التعبير يطلق على أربعة أشهر من الأشهر القمرية العربية. وقد ذكر عددها في آية التوبة هذه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦).
وقد ذكرت أسماء هذه الأشهر في حديث رواه البخاري عن أبي بكرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «١».
والثلاثة المتواليات المذكورة هي أشهر الحج عند العرب قبل الإسلام.
وحرمتها وقدسيتها وتحريم القتال فيها متصلة بذلك. وكانت بمثابة هدنة دينية عامة ليتمكن العرب الذين كانوا يأتون إلى الحج من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب وخارجها ممن في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق من القدوم إلى مكة والعودة إلى منازلهم أثناءها دون خوف ولا حرج. أما شهر رجب فقد كان يقوم فيه موسم ديني خاص بأهل الحجاز وتسميته برجب مضر على ما جاء في الحديث دليل على

(١) التاج ج ٢ ص ١٣٦.

صفحة رقم 336

ذلك فمدته كافية لقبائل مضر النازلة في الحجاز وما جاوره. وليس في الروايات بيان بماهية هذا الموسم ولكن هناك تقليدا إسلاميا بما يسمى الزيارة الرجبية وهي أداء العمرة في شهر رجب. ومن المسلمين من يرحل إلى مكة ليؤدي منسك العمرة في رجب. والآية [١٥٨] من هذه السورة التي سبق تفسيرها تذكر بصراحة أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ونوع يسمى العمرة. والنوع الأول يكون في موسم الحج والثاني في غير موسم الحج. ولعل الموسم الديني المضري الحجازي قبل الإسلام الذي كان يقوم في رجب هو موسم لزيارة الكعبة في غير موسم الحج.
ولعل التقليد الإسلامي بما يسمى الزيارة الرجبية متصل بذلك والله تعالى أعلم.
وظاهر من هذا أنه كان للعرب مصلحة عظمى دينية واجتماعية واقتصادية في الأشهر الحرم ولذلك كانوا على ما تلهمه الآيات وترويه الروايات «١» يتشددون في حرمتها وعدم إخلال هدنتها المقدسة حتى بلغ بهم الأمر إلى تحريم الصيد لأن فيه سفكا للدماء. فإذا حلت صار الناس في أمن شامل فلا نزاع ولا قتال ولا خوف. وما كان هذا ليكون لولا صبغتها الدينية. وقد أكد القرآن حرمتها وقداستها وأشار إلى ما فيها من مصلحة كبرى كما جاء في آية سورة التوبة [٣٦] التي أوردناها قبل، وآية سورة المائدة هذه: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) وهذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢). وذلك جريا على مبدأ الإبقاء على الصالح المفيد من التقاليد ولم يأذن بالقتال فيها إلّا لردّ عدوان ودفع ظلم وكفالة حرية الدعوة الإسلامية.

(١) اقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي ص ٢٨١ وما بعدها.

صفحة رقم 337
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية