
ثم عاوده ثالثا ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار».
فقال العالم المقضي له: يا رسول الله إن الحق حقه. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار»
«١». ومعنى «اقتطع» أي أخذ
وسأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا، ثم لا يزل ينقص حتى يعود دقيقا كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
أي عن فائدة اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان لماذا قُلْ يا أشرف الخلق هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ أي هي علامات لأغراض الناس الدينية والدنيوية وللحج كعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وصيامهم وإفطارهم وقضاء دينهم وأوقات زرعهم ومتاجرهم، ودخول وقت الحج وخروجه، ثم نزل في شأن نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كنانة وخزاعة كانوا يدخلون بيوتهم في الإحرام من خلفها أو من سطحها كما فعلوا في الجاهلية قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها في الإحرام وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى محارمه تعالى كالصيد وتوكل على الله تعالى في جميع أموره وَأْتُوا الْبُيُوتَ أي ادخلوها مِنْ أَبْوابِها في الإحرام كغيره وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير الأحكام أو في جميع أموركم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) لكي تفوزوا بالخير في الدين والدنيا أو لكي تنجوا من السخط والعذاب وَقاتِلُوا أي جاهدوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وطلب رضوانه في الحل والحرم. الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يبدءونكم بالقتال من الكفار وَلا تَعْتَدُوا عليهم بابتداء القتال في الحرم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) أي لا يريد الخير للمتجاوزين الحد.
وَاقْتُلُوهُمْ إن بدءوكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في الحل والحرم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي والمحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها، وقيل: وشركهم بالله وعبادة الأوثان في الحرم وصدّهم لكم عنه أشر من قتلكم إياهم فيه وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لا تبدأوهم بالقتل في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ أي الحرم بالابتداء فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه بالابتداء فَاقْتُلُوهُمْ فيه ولا تبالوا بقتالهم فيه لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب.
قرأ حمزة والكسائي «ولا تقتلوهم»، «حتى يقتلوكم»، «فإن قتلوكم» كله بغير ألف.
كَذلِكَ أي مثل هذا الجزاء الواقع منكم بالقتل والإخراج جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) يفعل بهم مثل ما

فعلوا فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما قد سلف رَحِيمٌ (١٩٢) بهم وَقاتِلُوهُمْ بالابتداء منهم في الحل والحرم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كي لا توجد فتنة عن دينكم، أي وقد كانت فتنتهم أنهم كانوا يؤذون أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة ذلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى قاتلوهم حتى تعلوا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وَيَكُونَ الدِّينُ أي وكي يوجد الإسلام والعبادة لِلَّهِ وحده لا يعبدون في الحرم سواه فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم في الحرم فَلا عُدْوانَ أي فلا سبيل لكم بالقتل إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) أي المبتدئين بالقتل، أو المعنى فإن انتهوا عن الأمر الذي يوجب قتالهم وهو إما كفرهم أو قتالهم فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون أنفسهم الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي دخلت يا محمد فيه لقضاء العمرة وهو ذو القعدة من السنة السابعة مقابل بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي صدوك عن دخول مكة وهو ذو القعدة من السنة السادسة. أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه. وَالْحُرُماتُ أي الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام قِصاصٌ أي يجري فيها بدل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي فجازوه بمثل ما اعتدى عليكم به وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اخشوه بالابتداء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) بالنصرة والحفظ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله لقضاء العمرة وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي ولا تلقوا أنفسكم إلى الهلاك بمنع النفقة في سبيل الله أو بالإسراف في النفقة أو بتضييع وجه المعاش وَأَحْسِنُوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته بأن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا. ويقال: وأحسنوا الظن في الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) أي يريد بهم الخير ويثيبهم نزلت الآيات من قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: ١٩٠] إلى هاهنا في حق المحرمين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لقضاء العمرة بعد عام الحديبية لأنهم خافوا أن يقاتلهم الكفار في الحرم والإحرام أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك لأن القتال في ذلك الوقت كان محرما في تلك الأحوال الثلاثة.
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام بأركانهما وشروطهما لله بأن تخلصوهما للعبادة ولا تخلطوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي منعتم عن إتمامهما بعدو فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم إذا أردتم التحلل ما تيسّر من الهدي من بدنة أو بقرة، أو شاة لترك الحرم، واذبحوها حيث أحصرتم في حل أو حرم وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي وقت مجيء ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجا من خلاف أبي حنيفة، فإذا ذبحتم فاحلقوا. ويجب نية التحلل عند الذبح والحلق وبهما يحصل الخروج من النسك.

قال الشافعي: كل ما وجب على المحرم في ماله لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في نوعين:
أحدهما: من ساق هديا فعطب في طريقه فيذبحه ويخلي بينه وبين المساكين.
وثانيهما: دم المحصر بالعدو فإنه يذبح حيث حبس لأن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً في بدنه محتاجا إلى المداواة واستعمال الطيب واللباس أَوْ كان بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي ألم في رأسه بسبب القمل والصيبان أو بسبب الصداع، أو كان عنده خوف من حدوث مرض أو ألم واحتاج إلى الحلق أبيح له ذلك، بشرط بذل الفدية كما قال تعالى: فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية مِنْ صِيامٍ في ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ بثلاثة آصع من غالب قوت مكة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة فَإِذا أَمِنْتُمْ من العدو فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أي فمن تلذذ بمحظورات الإحرام كالطيب واللباس والنساء بسبب إتيانه بالعمرة إلى الإحرام بالحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليه ما تيسر من الدم للجبران بخمسة شروط:
الأول: أن يقدم العمرة على الحج.
الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الثالث: أن يحج في هذه السنة.
الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.
الخامس: أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ووقت وجوب هذا الدم بعد ما أحرم بالحج، ويستحب أن يذبح يوم النحر ويجوز تقديم الذبح على الإحرام بالحج بعد الفراغ من العمرة، لأن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات. وعند أبي حنيفة هو دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر فلا يجوز عنده الذبح قبله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فمن لم يجد الهدي لفقده أو فقد ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في حال اشتغاله بإحرام الحج في أيام الاشتغال بأعمال الحج بعد الإحرام وقبل التحلل وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهليكم ووطنكم مكة أو غيرها. وقرأ ابن أبي عبلة سبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في البدل عن الهدي قائمة مقامه. ذلِكَ أي لزوم الهدي وبدله على التمتع لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما

فرض عليكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) لمن تهاون بحدوده الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي أشهر الحج معروفات بين الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع فجر يوم النحر عند الشافعي. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي فمن أوجب الحج على نفسه بالإحرام فيهن فلا جماع ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات ولا خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما في أيام الحج.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا فسوق» بالرفع والتنوين، ولا جدال بالنصب.
والباقون قرءوا الكل بالنصب. والمعنى على هذا لا يكونن رفث ولا فسوق، ولا خلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا بعرفات كسائر العرب، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه»
«١». فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر الجدال وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة وكترك المنهي يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يقبله أو يجزي به خير جزاء وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي تزودوا من التقوى لمعادكم فإنها خير زاد وهي فعل الواجبات وترك المحظورات. ويقال: وتزودوا ما تعيشون به لسفركم في الدنيا فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) أي ذوي العقول. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقا من ربكم بالتجارة في الحج فَإِذا أَفَضْتُمْ أي رجعتم مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وهو جبل يقف عليه الإمام وسمي «قزح» وهو آخر حد المزدلفة.
وقال بعضهم: المشعر الحرام هو المزدلفة، لأن الذكر المأمور به عنده يحصل عقب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالمبيت بالمزدلفة وَاذْكُرُوهُ أي الله كَما هَداكُمْ أي لأجل هدايته إياكم لمعالم دينه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) أي وإنكم كنتم من قبل الهدي لمن الجاهلين بالإيمان والطاعة ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي ثم ارجعوا من المزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، كما رجع منها إبراهيم وإسماعيل في ذلك الوقت على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان العرب الذين وقفوا بالمزدلفة يرجعون إلى منى بعد
فضل الحج والعمرة، والدارمي في كتاب المناسك، باب: في فضل الحج والعمرة، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب: فضل الحج، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٢٩). [.....]