آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ

للجمع، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر، فلا يظنن ظان أن الموفي بعهده على انفراد هذا الوصف فيه من جملة من قام بالبر، وكذا الصابر في البأساء حتى يستكمل هذه الأوصاف، وقد تدخل الواو في الأوصاف لموصوف واحد بقوله:
إلى الملك القرم......... (١)
البيت الذي أنشدناه آنفًا، دخلت الواو في هذه الأوصاف وهي لموصوف واحد. ولهذه النكتة اختلف السلف في هذه الآية، فقال بعضهم: هذه الصفة خاصة بالأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقال بعضهم: هذه عامة في جميع المؤمنين (٢).
١٧٨ - وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، كُتِبَ هاهنا، بمعنى: فُرض وأُوجب، كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: ١٨٠]. وأصله: أن من أراد إحكام شيء والاستيثاق منه كَتَبَه؛ لئلا ينساه، فقيل في كل مفروضٍ واجب: كتب، بمعنى: أحكم ذلك. وقيل: أصلُه: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ومن هذا قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١]، أي: قضى الله ذُلك، وفَرَغَ منه، وحَكَم به، ومثله قوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: ٣]، أي: حكم بإخراجهم من دورهم، وقوله: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: ٥١]، وقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ

(١) تقدم تخريج البيت.
(٢) نقله بتمامه الرازي في "تفسيره" ٥/ ٤٥ وصرح فيه بالنقل عن الواحدي.

صفحة رقم 529

عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: ١٥٤]، كل هذا من القضاء.
ويكون (كتب) بمعنى (١): جعل، كقوله: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة: ٢٢]، وقوله: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: ٨٣] وقوله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] (٢).
وقوله تعالى: ﴿القِصَاصُ﴾ معنى القصاص في اللغة: المماثلة والمساواة، وأصله من قولهم: قصصت أثره، إذا تتبعته (٣)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، فكأن المفعول به يتبع ما عُمِلَ به فَيَعْمَلُ مثله (٤). والقِصَاص مصدرة لأنه فعال من المفاعلة.
قال الفراء في كتاب المصادر: قاصَصْته قَصَصا، وأَقْصَصْتُه: إذا أقدته من أخيه إِقْصَاصًا، ويقال: قَصَصْتُ أثره قَصصًا وقَصًّا، وقَصصْتُ عليه الحديثَ قَصَصًا، قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣].
وقال في قَصِّ الأثر: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف: ٦٤] والقَصُّ جائز في هذين. هذا كلامه. وأراد بالقصاص هاهنا: المماثلة في النفوس والجروح.

(١) في (أ): (يعنى).
(٢) ينظر في معنى (كتب): "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٢، ١٠٣، "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٣، "المفردات" ص ٤٢٥ - ٤٢٧، "البحر المحيط" ٢/ ٧ - ٨، قال الراغب: ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض والعزم، بالكتابة، ووجه ذلك: أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب، فالإرادة مبدأ، والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى.
(٣) في (م): (تبعته).
(٤) "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٧٦.

صفحة رقم 530

وقال الأزهري: أصل القَصّ: القطع. قال أبو زيد: قَصَصتُ ما بينهما، أي: قطعت. قال الأزهري: والقِصَاص في الجِرَاح مأخوذ من هذا، وهو أن يُجْرحَ مثلَ ما جَرَح، أو يُقْتل مثل ما قتل (١)، والقول الأول أشهر؛ لأن القصاص والمقاصة في غير الجراح، يقال: قَاصَّه في الحساب وغيره: إذا أخذ الشيء مكان غيره.
وقال الليث: القصاص والتقاص (٢) في الجراحات والحقوق شيء بشيء (٣)، وهذا يبين ان معنى القصاص اعتبار المماثلة والمساواة (٤). وليس معنى الآية أن القصاص واجب علينا حتى لا يسعنا تركه، ولكن معناه: أن اعتبار المماثلة بين القتلى فرضٌ علينا، فالفَرْضِية ترجع إلى اعتبار المماثلة بين (٥) الدماء، لا إلى نفس القصاص، حتى يلزم قتْلُ القاتلِ حتمًا، فالقصاص حيث يجب إنما يجب إذا وُجِدَتْ المساواة، وهذا يؤكدُ أنَ القولَ في اشتقاق القِصَاص في اللغة إنما هو من الاتباع، لا من القطع كما قاله الأزهري؛ لأنه لو كان من القطع لوجب القصاص حتى لا يسعنا تركه (٦).

(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٦ (قصّ)، وعبارته: والقصاص في الجراح مأخوذ من هذا، يجرحه مثل جرحه إياه، أو قتله به.
(٢) في (ش): (والتقصاص).
(٣) نقله عنه في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٦، "لسان العرب" ٦/ ٣٦٥٢ (قصّ).
(٤) ينظر في معنى القصاص "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٢ - ١٠٣، "اللسان" ٦/ ٣٦٥٢ (قصّ).
(٥) في (أ)، (م): (من).
(٦) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٢، ١٠٦، "زاد المسير" ١/ ١٨٠، "التفسير الكبير" ٥/ ٤٨، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٣: وصورة فرض القصاص هو =

صفحة رقم 531

قوله تعالى: ﴿اَلحُرُّ باَلحُرِّ﴾ أراد: الحر يقتص بالحر، فحذف لدلالة ذكر القصاص عليه. والحر: نقيض (١) العبد، قال أهل الاشتقاق: أصله من الحَرِّ الذي هو ضد (٢) البرد، وذلك أن الحُرّ له من الأنفة وحرارة الحمية ما يبعثه على المكرمة، بخلاف العبد، ثم قيل للأكرم من كل شيء: حُرٌّ تشبيهًا بالرجل الحر (٣).
قال المفسرون: نزلت الآية في حَيَّيْنِ من العَرَبِ، لأَحَدِهِما طَولٌ على الآخر، فكانوا يتزوجون نسائهم بغير مهور، فقتلَ الأوضعُ منهما من الشريف قتلى، فحلف الشريف لَيَقْتُلَن الحرَّ بالعبد، والذكرَ بالأنثى. وليضاعفن الجراح، فأنزل الله هذه الآية، ليعلم أن الحر المسلم، كفء للحر المسلم، وكذلك العبد للعبد، والذكر للذكر، والأنثى للأنثى (٤).

= أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله، والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه، وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص باللزام، إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح.
(١) في (ش): (يقتص).
(٢) في (م): (نقيض).
(٣) ينظر في معاني الحر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٨٠ - ٧٨٣، "اللسان" ٢/ ٨٢٧ - ٨٣٢.
(٤) ينظر في سبب النزول "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٣، "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٠٨، "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٣ - ٨٤، "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٧٥، "أسباب النزول" للواحدي ص ٥٢ - ٥٣، "زاد المسير" ١/ ١٨٠، "العجاب" لابن حجر ١/ ٤٢٣ - ٤٢٦، "لباب النقول" للسيوطي ص ٣٢ - ٣٣، وقد استطرد الطبري -رحمه الله- في ذكر أسباب نزول للآية، وكلها تدور حول هذا المعنى الذي ذكره الواحدي.

صفحة رقم 532

ولم تدل (١) الآية على أن الذكر لا (٢) يقتل بالأنثى، ولكنها بينت أن من قُتِلتْ له أُنْثَى فقال: لا أقتل بها إلا رجلًا متعدٍّ غير منصف، فأما قتل الذكر بالأنثى فمستفاد من إجماع الأمة؛ لأنهما تساويا في الحرمة، والميراثِ، وحدِّ الزنى، والقذف وغير ذلك، فوجب أن يستويا في القصاص (٣).
قال الفراء: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] (٤) وكان عنده هذه الآية تدل على أن الرجل إنما يُقتل بالذَّكَر ولا يُقتل بالأنثى؛ لأنه قال: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ فلما لم يعمل بهذا وعمل بقوله: ﴿اَلنَّفسَ بِالنَّفسِ﴾ جعل هذه الآية منسوخة، والصحيح أن هذه الآية غير منسوخة؛ لأن حُكْمَ الآية ثابتٌ، ولم تدلَّ على أن الذكرَ لا يقتل بالأنثى (٥).

(١) في (ش): (تدلك).
(٢) في (م): (لم).
(٣) "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٧٧، وينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٥، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي ١/ ٤٤، "أحكام القرآن" لابن العربي ١/ ٦٣، "تفسير القرطبي" ٢/ ٢٢٧، "البحر المحيط" ٢/ ١١ وقد حكى هؤلاء الثلاثة الإجماع على ما ذكره المؤلف. "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٤، "تفسير البغوي" ١/ ١٨٩.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٠٩.
(٥) ينظر: "تفسير القرطبي" ٢/ ٢٢٧، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٤ - ٨٥: روي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا يدخل صنف على صنف، ثم نسخت بآية المائدة: (أن النفس بالنفس)، قال القاضي أبو محمد (ابن عطية): هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله - ﷺ - من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو=

صفحة رقم 533

وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ معنى العفو: هو ترك الواجب من أَرْشِ (١) جناية، أو عقوبة ذنب، أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية فصفح عنه وترك له من الواجب عليه (٢).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ أراد: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به (٣)، وأراد بالأخ: المقتول، سماه أخًا للقاتل، فدل أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله (٤) (٥).
وفي قوله: (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عَفَا سَقَطَ القود؛ لأن شيئًا من الدمِ قد بطل بعفو البعض (٦)، والله تعالى قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾، والكنايتان في قوله: ﴿لَهُ﴾ و ﴿أَخِيهِ﴾ ترجعان إلى (مَنْ) وهو القاتل (٧)، ولا يحتاج أن يقال: أخيه المقتول؛ لأن هذا الحكم لا

= عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة، وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا: (الحر بالحر)، يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.
(١) الأرش: ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع، وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص، وسمي أرشا؛ لأنه من أسباب النزل، يقال: أرَّشت بين القوم إذا أوقعت بينهم. "النهاية" ص ٣٣.
(٢) وهو قول ابن عباس ومجاهد وعطاء والشعبي وقتادة والربيع وغيرهم. ينظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ٦٦، "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٢٩٥، "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٨١.
(٣) "البحر المحيط" ١/ ١٢.
(٤) في (ش): (بقلبه).
(٥) "البحر المحيط"١/ ١٢، "التفسير الكبير" ٥/ ٥٤، "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٨.
(٦) "البحر المحيط"١/ ١٣، "التفسير الكبير" ٥/ ٥٤.
(٧) "تفسير البغوي" ١/ ١٩١.

صفحة رقم 534

يثبت ولا يوجد إلا عند القتل.
هذا الذي ذكرنا من معنى قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ هو الذي عليه عامة المفسرين وأهل المعاني وإن لم (١) يبينوا هذا البيان. (٢)
وقال الأزهري: هذه الآية فيها إشكال، وقد فسرها ابن عباس وغيرُه من المفسرين على جهة التقريب وقدر أفهام من شاهدهم من أهل عصرهم. وأهلُ عصرنا لا يكادون يفهمون عنهم ما أومأوا إليه حتى يزاد في البيان، ويوضح بعض الإيضاح، ونسأل الله التوفيق.
حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار (٣) عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كان القِصَاصُ في بني إسرائيل ولم تكن الدية، فقال الله لهذه الأمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ إلى قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ قال: فالعفو أن تقبل الدية في العمد (٤).
قال الأزهري: وليس العفو في قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ عفوًا من ولي (٥)

(١) (لم) سقطت من (م).
(٢) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٧، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٤٨، "تفسير البغوي" ١/ ١٩١، "أحكام القرآن" لابن العربي ١/ ٦٦، "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٨، "تفسير القرطبي" ٢/ ٢٣٤، وذكر خمس تأويلات للآية، وقال: هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء.
(٣) هو: أبو محمد عمرو بن دينار المَكِّي الأثرم الجمحي مولاهم، تابعي إمام حافظ ثقةٌ ثبت، توفي سنة ١٢٦هـ ينظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٢٣١، "التقريب" ص ٤٢١ (٥٠٢٤).
(٤) الحديث: أخرجه البخاري (٤٤٩٨) كتاب التفسير، باب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، والطبري في "تفسيره" ٢/ ١٠٧، كلاهما بهذا الإسناد.
(٥) في (ش): (ولا).

صفحة رقم 535

الدم، ولكنه عفو من الله -جل ذكره-، وذلك أنه لم يكن لبني إسرائيل أن يأخذوا الدية، فجعلها الله لهذه الأمة عفوًا منه وفضلًا، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد، فذلك قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَئٌ﴾ أي (١): من عفا الله له بقبول الدية مع اختياره، أي: تَفَضَّل اللهُ عليه من هذه الأمة، ولم يكن ذلك الفضلُ لمن تَقَدَّمَه، قال: وقوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ ﴿مِنْ﴾ هاهنا بمعنى البدل، المعنى: فمن عفا الله له بقبول الدية بدل أخيه المقتول. والعرب تقول: عوّضت (٢) له من حقه ثوبًا: أي، أعطيته بدل حقه ثوبًا، وما أعلم أحدًا فسر من هذه الآية ما فسرته، فتدبره، فإنه صعب، واقبله بِشُكْرٍ إذ بان لك صوابه، انتهى كلامه (٣).
ولقد أعجب بقوله، وزلّ (٤) فيما تكلف، وليس الأمر على ما ذكر، فإن (٥) قوله ﴿فَمَنْ عُفِيَ﴾ عفو من ولي الدم بإباحة الله تعالى ذلك، ولو

(١) لخص الواحدي كلام الأزهري، وهذا تمام هذه الجملة ٣/ ٢٢٦: أي: من عفا الله -جل اسمه- له بالدية حين أباح له أخذها بعدما كانت محظورة على سائر الأمم، مع اختياره إياها على الدم، (اتباع بالمعروف)، أي: مطالبة للدية بمعروف، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان، ثم بين ذلك فقال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، لكم يا أمة محمد، وفضل جعله لأولياء الدم منكم، ورحمة خصكم بها، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، أي: من سفك دم قاتل وليه بعد قبوله الدية، ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، والمعنى الواضح في قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَئٌ﴾، أي: أحل له أخذ الدية بدل أخيه المقتول، عفوًا من الله وفضلًا مع اختياره، فليطالب بالمعروف.
(٢) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٣ (عاض).
(٣) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٣ (بمعناه).
(٤) في (م): (وزاد).
(٥) في (م): (ما ذكرنا وقوله).

صفحة رقم 536

كان العفو من الله تعالى لتعيّنت (١) الدية وسقط القصاص أصلًا، ولا معنى لقوله: أي: من عفا الله له بقبول الدية، أي: تفضل الله به عليه؛ لأن هذا رُخِّص لولي الدم في العفو، وهذا التفضل من الله، هذا العفو على القاتل لا على ولي الدم. وقوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ أي: بدل أخيه المقتول (٢) ليس بشيء؛ لأن قوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ عام في كل المقتول، ليس المراد به (٣) أخوة النسب، وعلى ما ذكره يختص بالأخ من (٤) طريق النسب، والحكم في كل مقتول سواء، وليس لتخصيص الأخ فائدة، ومن تأمل هذا ظَهَرَ له فساد قوله.
وقوله: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ على معنى: فعليه اتباع بالمعروف، ولو كان في غير القرآن لجاز: فاتباعًا وأداءً على معنى: فليتبع اتباعًا، وليؤد أداءً (٥). قال الفراء: وهو بمنزلة الأمر في الظاهر، كما تقول: من لقي العدو فصبرًا واحتسابًا، فهذا نصب (٦)، ورفعه جائز، على معنى: فعليه. ومثله في القرآن كثير، كقوله: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [البقرة: ١٩٦]، ﴿فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [النساء: ٩٢]، ﴿فَإمسَاكُ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وليس شيء من هذا إلا ونصبه جائز على أن توقع عليه الأمر. ومما جاء منصوبًا قوله:

(١) في (م): (لم ثبتت).
(٢) في (م): (العفو).
(٣) ليست في (م).
(٤) ليست في (ش).
(٥) من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٤٩، وينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١١٠، "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٢.
(٦) في (م): (نصبه).

صفحة رقم 537

﴿فَضَربَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: ٤] (١). والمعروف: كل ما يتعارفه الناس ولا ينكرونه، ثم صار اسمًا للإحسان والجود والأخلاق الجميلة، لأنها مما لا ينكر، وأراد بالمعروف هاهنا: ترك التشديد (٢) على القاتل في طلب الدية، ومعناه: فعلى (٣) وليِّ المقتول الاتباع (٤) بالمعروف في المطالبة بالدية (٥)، وهو معنى قول ابن عباس: يطلبُ هذا بإحسان، ويؤدي هذا بإحسانٍ (٦).
وقال بعضهم: قوله: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: فالأمر اتباعٌ بالمعروف، أو فالحكم فيه اتباع بالمعروف (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَأَدَاءٌ﴾ الأداء: اسم، من قولك: أدَّيْتُ إليه المال، وقد ينوب عن المصدر فيقال: أدّيت أداءً، كما يقال: سَلَّمْتُ

(١) من "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٠٩ - ١١٠ بتصرف كبير، وينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١١٠، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٤٨ - ٢٤٩.
(٢) في (أ)، (م): (التشدد).
(٣) بياض في (م).
(٤) في (ش): (اتباع).
(٥) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ١٠٩، "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٩.
(٦) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ١٠٩.
(٧) وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" ٢/ ١١٠، وينظر: "التفسير الكبير" ٥/ ٤٥، "المحرر الوجيز" ٢/ ٨٩، وقال: فاتباع رفع على خبر ابتداء مضمر، تقديره: فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبًا، كقوله تعالى: ﴿فَضَربَ الرِقَابِ﴾ [محمد: ٤]، قال في "البحر المحيط" ٢/ ١٤: ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلا ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: ٦٩].

صفحة رقم 538

سلامًا، وكلَّمْتُ كلامًا، قال الله تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُن سَرَاحًا﴾ [الأحزاب: ٤٩]. وقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ﴾ الكناية ترجع إلى العافي، ودل عليه ﴿عُفِىَ﴾، لأنا قد ذكرنا أَنَّ الفعل يدل على الفاعل، فكأنه ذُكِر (١) (٢).
وقوله: ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ قال ابن عباس، في رواية عطاء (٣): يريد: أن يؤديَ الدية في نجومها، ولا يَمْطُلَه، ولا يذهبَ بشيء (٤) منها، هذا هو الإحسان.
قال المفسرون: إن الله تعالى أمر الطالب أن يطلب بالمعروف، ويتبع الحق الواجب له، من غير أن يطالبه بالزيادة، أو يكلفه ما لا يوجبه الله، أو يشدد عليه (٥). كل هذا تفسير المعروف، وأَمَرَ المطلوب منه بالإحسان في الأداء، وهو ترك المَطْل والتسويف، وهذا لا يختص بثمن الدم، بل كل دين فهذا سبيله (٦).
وقوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد حيث جعل الدية لأمتك يا محمد (٧).

(١) في (ش): كأنها: (ذكره).
(٢) ينظر تفسير الواحدي لقوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧].
(٣) في (م): (شيئًا).
(٤) تقدم الحديث عن هذه الرواية.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٢.
(٦) ينظر: "التفسير الكبير" ٥/ ٥٥، "تفسير القرطبي" ٢/ ٢٣٥ - ٢٣٦. وقوله: بل كل دين فهذا سبيله، ففي حق الطالب قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾. وفي حق المطلوب قال النبي - ﷺ -: "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته".
(٧) رواه الطبري بمعناه ٢/ ١١١، وابن أبي حاتم ١/ ٢٩٦.

صفحة رقم 539

قال قتادة: لم تحلّ الدية لأحد غير هذه الأمة (١).
قال المفسرون: إن الله تعالى كتب على أهل التوراة أن يُقِيدُوا (٢)، ولا يأخذوا الدية، ولا يعفوا؛ وعلى أهل الإنجيل أن، يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدية؛ وخَيّر هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو، فقال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، أي: التخيير بين هذه الأشياء (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ قال ابن عباس: يريد: كما كانت الجاهلية تفعل، تقتل من قوم القاتل عِدَّةً (٤).
وقال آخرون: أي: ظَلَم فوثب على القاتل فقتله بعد أخذ الدية (٥).
وفي هذه الآية أدلة على القدرية:
أحدها: قوله في افتتاح الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ ولا خلاف أن القصاص واقع في قتل العمد، فلم يسقط اسم الإيمان عن القاتل بارتكاب هذه الكبيرة.
والثاني: ما ذكرنا في قوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾.
والثالث: قوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ وهما يلحقان

(١) رواه الطبري عنه بمعناه ٢/ ١١١، وابن أبي حاتم ١/ ٢٩٦.
(٢) في (ش): (ولا يفتفدوا).
(٣) روي نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع وقتادة. ينظر البخاري (٤٤٩٨) كتاب التفسير، باب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، "تفسير الطبري" ٢/ ١١٠، وابن أبي حاتم ١/ ٢٩٦، "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٨٥.
(٤) لم أجده في الطبري ولا ابن أبي حاتم ولا البغوي، وذكر الرازي هذا القول ولم ينسبه لأحد ٥/ ٥٥.
(٥) تنظر الآثار التي أوردها الطبري ٢/ ١١٢، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والحسن وعكرمة والسدي وابن زيد، وكذا عن ابن أبي حاتم ١/ ٢٩٧.

صفحة رقم 540
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية