آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ

الْبِلَادِ وَكُلِّ الشُّعُوبِ، بَلْ إِنَّ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي غَيْرِهَا مَنْ يُحَبِّبُ إِلَيْهِ الْجَرَائِمَ أَوْ يُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ كَوْنُ عُقُوبَتِهَا السِّجْنَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا مِنْ بَيْتِهِ، وَإِنَّ فِي مِصْرَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مَنْ يُسَمِّي السِّجْنَ نُزُلًا أَوْ فُنْدُقًا، وَسَمِعْتُ أَنَا غَيْرَ وَاحِدٍ فِي سُورِيَةَ يَقُولُ: إِذَا فَعَلَ فُلَانٌ كَذَا فَإِنَّنِي أَقْتُلُهُ وَأُقِيمُ فِي الْقَلْعَةِ عَشْرَ سِنِينَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاتِلَ هُنَاكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ غَالِبًا بِالسِّجْنِ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَلْعَةِ طَرَابُلُسَ الشَّامِ، وَيَعْفُو السُّلْطَانُ فِي عِيدِ جُلُوسِهِ عَمَّنْ تَمَّ لَهُ ثُلُثَا الْمُدَّةِ الْمَحْكُومِ بِهَا عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ، وَاشْتُهِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُجْرِمِينَ فِي مِصْرَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بَعْضَ السُّجُونِ الْعَصْرِيَّةِ ((لُوكَانْدَةَ كُولَسَ)) بِالْإِضَافَةِ إِلَى كُولَسَ بَاشَا مُدِيرِ السُّجُونِ الَّذِي أُنْشِئَتْ فِي عَهْدِهِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسْرِقُ كَذَا أَوْ أَضْرِبُ فُلَانًا وَأَشْتُو فِي لُوكَانْدَةِ كُولَسَ فَإِنَّ الشِّتَاءَ فِيهَا أَرْحَمُ وَأَنْعَمُ مِنَ الشِّتَاءِ فِي بَيْتِنَا أَوْ فِي الشَّوَارِعِ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى الْمُجْرِمِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَقْتُلَ لِأَنَّ عِقَابَ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ السُّجُونِ - وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ - أَهْوَنُ مِنْ عِيشَتِهِ الشَّقِيَّةِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي أَصْحَابِ الثَّارَاتِ الَّتِي لَا تَمُوتُ؟ - فَقَتْلُ الْقَاتِلِ هُوَ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ (قَالَ شَيْخُنَا) : وَقَدْ بَالَغَ فِي الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ مُعَدِّلُ الْقَانُونِ الْمِصْرِيِّ حَيْثُ أَجَازَ الْحُكْمَ بِالْإِعْدَامِ إِذَا وُجِدَتِ الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ عَلَى ثُبُوتِ التُّهْمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُجِيزُهُ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودِ الرُّؤْيَةِ.
وَقَدْ تَقَعُ فِي كُلِّ بِلَادٍ صُوَرٌ مِنْ جَرَائِمِ الْقَتْلِ يَكُونُ فِيهَا الْحُكْمُ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ ضَارًّا وَتَرْكُهُ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، كَأَنْ يَقْتُلَ الْإِنْسَانُ أَخَاهُ أَوْ أَحَدَ أَقَارِبِهِ لِعَارِضٍ دَفَعَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا الْقَاتِلُ هُوَ الْعَائِلُ لِذَلِكَ الْبَيْتِ، وَإِذَا قُتِلَ يَفْقِدُونَ بِقَتْلِهِ الْمُعِينَ وَالظَّهِيرَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ أَحْيَانًا مَفَاسِدُ وَمَضَارُّ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمَقْتُولِ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَدَمَ قَتْلِهِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، أَوْ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَنْفَعُ لَهُمْ، فَأَمْثَالُ هَذِهِ الصُّوَرِ تُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ الْحُكْمُ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ حَتْمًا لَازِمًا فِي كُلِّ حَالٍ، بَلْ يَكُونُ هُوَ الْأَصْلَ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ جَائِزًا بِرِضَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَعَفْوِهِمْ، فَإِذَا ارْتَقَتْ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ فِي شَعْبٍ أَوْ قَبِيلٍ أَوْ بَلَدٍ إِلَى أَنْ صَارَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْهُمْ يَسْتَنْكِرُونَ الْقَتْلَ وَيَرَوْنَ الْعَفْوَ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ فَذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَمْنَعُهُمْ مِنْهُ بَلْ تُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ الْكَامِلُ فِي الْقِصَاصِ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمَا كَانَ لِيَرْتَقِيَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ عِلْمُ الْإِنْسَانِ. قَالَ تَعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الْقِصَاصُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: يُفِيدُ الْمُسَاوَاةَ، فَمَعْنَى الْقِصَاصِ هُنَا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ ; لِأَنَّهُ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ مُسَاوٍ لِلْمَقْتُولِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، فَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ شَرْعِيَّةُ الْقِصَاصِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ
وَإِبْطَالُ ذَلِكَ الِامْتِيَازِ الَّذِي لِلْأَقْوِيَاءِ عَلَى الضُّعَفَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) أَيْ: إِنَّ هَذَا الْقِصَاصَ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا جَوْرَ، فَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ حُرًّا يُقْتَلُ هُوَ بِهِ لَا غَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الْقَبِيلَةِ، وَلَا أَكْثَرُ

صفحة رقم 101

مِنْ وَاحِدٍ، وَإِذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا يُقْتَلُ هُوَ بِهِ لَا سَيِّدُهُ، وَلَا أَحَدُ الْأَحْرَارِ مِنْ قَبِيلَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا قَتَلَتْ تُقْتَلُ هِيَ، وَلَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ فِدَاءً عَنْهَا، خِلَافًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسِهِ أَيًّا كَانَ، لَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الثَّأْرِ يُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ مَفْهُومَ اللَّفْظِ بِحَدِّ ذَاتِهِ وَسِيَاقِ مُقَابَلَةِ الْأَصْنَافِ بِالْأَصْنَافِ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَرِيقٌ بِفَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; فَقَدْ جَرَى الْعَمَلُ مِنْ زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآنِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَيِّدَهُ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ مُطْلَقًا، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ أَضْعَفُ، وَلِهَذِهِ الْخِلَافَاتِ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ نَسْخًا.
وَإِنَّمَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مِنَ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآيَةِ وَعَدَمِهِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ. فَمَنْطُوقُ الْآيَةِ لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِلَخْ، وَأَمَّا كَوْنُ الْحُرِّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ وَالرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ الْقِصَاصِ وَلَا يُعَارِضُهُ مَفْهُومُ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ الْمُخَالِفَ لِلْمَنْطُوقِ، وَبَعْضَهُمْ يَعْتَبِرُهُ بِشَرْطٍ لَا يَتَحَقَّقُ هُنَا لِمَا ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مُنْطَبِقًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْعَرَبِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ دِمَاءٌ، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْآخَرِ فَأَقْسَمُوا لَنَقْتُلَنَّ الْحُرَّ مِنْكُمْ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرَ بِالْأُنْثَى، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَحَاكَمُوا إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَبَارَءُوا. وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَلَّا يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، كَمَا لَا تَدُلُّ عَلَى عَكْسِهِ، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ يُعْتَبَرُ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّخْصِيصِ غَرَضٌ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ اهـ. وَالْبَيْضَاوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الْكَافِرُ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُبَيِّنِ لِإِجْمَالِ الْآيَةِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهَا السَّيِّدَ يَقْتُلُ عَبْدَهُ، قَالُوا: لَا يُقْتَلُ بِهِ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ إِلَّا عَنِ النَّخَعِيِّ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُقَرِّرَ هَذَا التَّعْزِيرَ بِشِدَّةٍ تَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ وَالِاسْتِهَانَةَ بِالدَّمِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ، فَإِذَا عُهِدَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْقَسْوَةِ مَا يَقْتُلُونَ بِهِ عَبِيدَهُمْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ السَّيِّدَ بِعَبْدِهِ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا الْوَالِدَيْنِ فَقَالُوا: لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَّلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْحُدُودَ تُوضَعُ حَيْثُ

صفحة رقم 102

تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ لِلْجِنَايَةِ لِتَكُونَ رَادِعَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهَا، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْفِطْرَةِ بِأَنَّ قُلُوبَ الْأُصُولِ مَجْبُولَةٌ مِنْ طِينَةِ الشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ عَلَى الْفُرُوعِ ; حَتَّى لَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَقْسُو الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ، وَقَلَّمَا يَقْسُو وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ إِلَّا لِسَبَبٍ قَوِيٍّ كَعُقُوقٍ شَدِيدٍ أَوْ فَسَادٍ فِي أَخْلَاقِ الْوَلَدِ جَنَى عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ كَالْإِفْرَاطِ فِي حُبِّ الذَّاتِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقَسْوَةَ لَا تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ إِلَّا لِأَمْرٍ يَكَادُ يَكُونُ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ، كَعَارِضِ جُنُونٍ مِنَ الْوَالِدِ، أَوْ إِيذَاءٍ لَا يُطَاقُ مِنَ الْوَلَدِ - وَلَمَّا كَانَ هَذَا شَاذًّا نَادِرًا جُعِلَ كَالْعَدَمِ فَلَمْ يُلَاحَظْ فِي وَضْعِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تُنَاطُ بِالْمَظِنَّةِ لَا بِالشَّوَاذِّ الَّتِي يَنْدُرُ أَنْ تَقَعَ، وَمَعَ هَذَا يُعَزَّرُ مَنْ يَقْتُلُ وَلَدَهُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ لَائِقًا بِحَالِهِ وَمُرَبِّيًا لِأَمْثَالِهِ.
(وَأَقُولُ) : إِنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ هَذَا الشُّذُوذِ فِي الْوَالِدَيْنِ طُغْيَانُ الْحُكْمِ الِاسْتِبْدَادِيِّ وَجُنُونُ الْعِشْقِ ; فَكَثِيرًا مَا قَتَلَ الْمُلُوكُ أَوْلَادَهُمْ، وَكَانَتْ سُنَّةُ سَلَاطِينِ آلِ عُثْمَانَ أَنْ تُسَلِّمَ الْقَوَابِلُ أَبْنَاءَ أُسْرَتِهِمْ كُلَّهُمْ لِلْقَتْلِ عَقِبَ الْوِلَادَةِ إِلَّا مَنْ يُسَمَّى وَلِيَّ الْعَهْدِ الْوَارِثَ لِلسَّلْطَنَةِ، وَيَلِي ذَلِكَ قَتْلُ الْوَالِدَيْنِ حَتَّى الْأُمَّهَاتِ بِثَوَرَانِ جُنُونِ الْعِشْقِ.
وَقَدِ اضْطَرَبَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْقِصَاصِ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلَ وَلَا الْمَقْتُولَ وَلَا وَلِيَّ الدَّمِ وَلَا عَصَبَةَ الْقَاتِلِ وَلَا سَائِرَ النَّاسِ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)
الْحُكَّامُ خَاصَّةً. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا أَوْرَدَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ بَعْضِهِمْ: وَهَذِهِ مُشَاغَبَةٌ وَتَشْكِيكٌ كَمُشَاغَبَاتِ الرَّازِيِّ وَشُكُوكِهِ وَالْخِطَابُ مَفْهُومٌ بِالْبَدَاهَةِ، وَالْآيَةُ جَارِيَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مُخَاطَبَةِ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ وَالْمَصَالِحِ ; لِاعْتِبَارِ الْأُمَّةِ مُتَكَافِلَةً وَمُطَالَبَةً بِتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ وَحِفْظِهَا، وَبِالْخُضُوعِ لِأَحْكَامِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْيَهُودِ بِإِسْنَادِ مَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمْ إِلَيْهِمْ، إِذْ قُلْنَا إِنَّ الْأُمَّةَ فِي هَدْيِ الْقُرْآنِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ يُخَاطَبُ الْبَعْضُ مِنْهَا بِالْكُلِّ وَالْكُلُّ بِالْبَعْضِ، كَمَا يُقَالُ لِلشَّخْصِ جَنَيْتَ وَجَنَتْ يَدُكَ، وَأَخْطَأْتَ وَأَخْطَأَ سَمْعُكَ أَوْ رَأْيُكَ، فَفِي هَذَا الْخِطَابِ بِالْقِصَاصِ يَدْخُلُ الْقَاتِلُ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْخُضُوعِ لِحُكْمِ اللهِ، وَيَدْخُلُ الْحَاكِمُ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّنْفِيذِ، وَيَدْخُلُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِمُسَاعَدَةِ الشَّرْعِ وَتَأْيِيدِهِ. وَمُرَاقَبَةِ مَنْ يَخْتَارُونَهُ لِلْحُكْمِ بِهِ وَتَنْفِيذِهِ. اهـ.
وَأَزِيدُ عَلَيْهِ إِفَادَةَ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ سُلْطَةَ الْحُكْمِ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا، كُلٌّ يَقُومُ بِقِسْطِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي التَّشْرِيعِ بِالشُّورَى، وَالتَّنْفِيذِ لِلْأَحْكَامِ، وَالْخُضُوعِ لَهَا بِشُرُوطِهَا.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَهُوَ أَصْلُ الْعَدْلِ ذَكَرَ أَمْرَ الْعَفْوِ وَهُوَ مُقْتَضَى التَّرَاحُمِ وَالْفَضْلِ، فَقَالَ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) إِلَخْ. أَيْ: فَمَنْ عَفَا لَهُ أَخُوهُ فِي الدِّينِ

صفحة رقم 103

مِنْ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ فِي الْقِصَاصِ - وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ إِنْ تَعَدَّدُوا - وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا يَعْفُو مَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذَا الْحَقَّ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ الَّذِينَ يَعْتَزُّونَ بِوُجُودِهِ، وَيُهَانُونَ بِفَقْدِهِ، وَيُحْرَمُونَ مِنْ عَوْنِهِ وَرِفْدِهِ، فَمَنْ أَزْهَقَ رُوحَهُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا إِزْهَاقَ رُوحِهِ، لِمَا تَسْتَفِزُّهُمْ إِلَيْهِ نُعَرَةُ الْقَرَابَةِ وَطَبِيعَةُ الْمَصْلَحَةِ ; فَإِذَا لَمْ يُجَبْ طَلَبُهُمْ، وَلَمْ يَقْتَصَّ الْحَاكِمُ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَالُونَ لِلِانْتِقَامِ، وَيَفْشُو بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاتِلِ وَقَوْمِهِ التَّشَاحُنُ وَالْخِصَامُ، وَإِذَا جَاءَ الْعَفْوُ مِنْ جَانِبِهِمْ أُمِنَ الْمَحْذُورُ وَالْفِتْنَةُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ اسْتِعْطَافُ الْقَاتِلِ وَقَوْمِهِ لَهُمْ، وَاسْتِعْتَابُهُمْ إِيَّاهُمْ بِإِثَارَةِ عَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ، وَأَرِيحِيَّةِ الْمُرُوءَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوجِبُ اللهُ تَعَالَى حَجْبَ الدَّمِ، وَلَيْسَ لِلْحُكُومَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْعَفْوِ إِذَا رَضُوا بِهِ، وَلَا أَنْ تَسْتَقِلَّ بِالْعَفْوِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ فَتَحْفَظُ قُلُوبَهُمْ، وَتُخْرِجُ أَضْغَانَهُمْ، وَتَحْمِلُهُمْ
عَلَى مُحَاوَلَةِ الِانْتِقَامِ بِأَيْدِيهِمْ - إِذَا قَدَرُوا - فَيَزِيدُ الْبَلَاءُ، وَيَكْثُرُ الِاعْتِدَاءُ، أَوْ يَعِيشُ النَّاسُ فِي تَبَاغُضٍ وَعَدَاءٍ، وَفَوْضَى تُسْتَبَاحُ فِيهَا الدِّمَاءُ. وَعِبَارَةُ الْآيَةِ تُشْعِرُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْعَفْوَ ; وَلِذَلِكَ فَرَضَ اتِّبَاعَ الْعَفْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامًّا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ يُرَجَّحُ جَانِبُهُ عَلَى الْآخَرِينَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (شَيْءٌ) هُنَا نَائِبٌ عَنِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: عُفِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ بِأَنْ نَالَهُ بَعْضُهُ مِمَّنْ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا وَيُؤَكِّدُهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَافِي بِلَفْظِ الْأَخِ الَّذِي يُحَرِّكُ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَقْتَضِي الِارْتِدَادَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَطْعِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّهُ فَاعِلُهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمُ اسْتِعْمَالُ عُفِيَ مُتَعَدِّيَةً بِاللَّامِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا بِمَعْنَى تَرَكَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عَفَا الشَّيْءَ بِمَعْنَى تَرَكَهُ بَلْ أَعْفَاهُ، وَعَفَا يُعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنْبِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (٩: ١٤٣) وَقَالَ: (عَفَا اللهُ عَنْهَا) (٥: ١٠١) فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ وَعَلَيْهِ مَا فِي الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ يَعْنِي وَلِيَّ الدَّمِ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَى بِأَخْذِ الدِّيَةِ قَالَ تَعَالَى: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) أَيْ: مَنْ نَالَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعَفْوِ فَالْوَاجِبُ فِي شَأْنِهِ أَوْ قَضِيَّتِهِ تَنْفِيذُ الْعَفْوِ وَثُبُوتُ الدِّيَةِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِاتِّبَاعِ الْعَفْوِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ الْحَاكِمِ وَعَلَى الْعَافِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُوا فَعَلَيْهِمْ أَلَّا يُرْهِقُوا الْقَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا، بَلْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدِّيَةَ بِالرِّفْقِ وَالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يَسْتَنْكِرُهُ النَّاسُ، وَعَبَّرَ عَنِ الثَّانِي بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَلَا يَمْطُلَ وَلَا يَنْقُصَ وَلَا يُسِيءَ فِي صِفَةِ الْأَدَاءِ.
وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)

صفحة رقم 104

(٤: ٩٢) هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ مَا قَالُوهُ مِنِ احْتِمَالِ غَيْرِهِ.
وَيُؤَكِّدُ رَغْبَةَ الشَّارِعِ فِي الْعَفْوِ امْتِنَانُهُ عَلَيْنَا بِإِجَازَتِهِ وَوَعِيدِهِ لِمَنِ اعْتَدَى،
أَمَّا الِامْتِنَانُ بِهِ فَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وَأَيُّ تَخْفِيفٍ وَرُخْصَةٍ أَفْضَلُ مِنْ حَجْبِ الدَّمِ بِتَجْوِيزِ الْعَفْوِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْهُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَالِ؟ فَهَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ رَغَّبَهَا فِي التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا الْوَعِيدُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ: بَعْدَ الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ وَالرِّضَى بِالدِّيَةِ بِأَنِ انْتَقَمَ مِنَ الْقَاتِلِ (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَتَحَتَّمُ قَتْلُ الْمَوْلَى الْعَافِي أَوْ غَيْرِهِ إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ ; بَلْ يَقْتُلُهُ الْحَاكِمُ وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمْرُهُ إِلَى الْإِمَامِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَرَاهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَا يُؤَيِّدُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَبَيَانٌ لِحِكْمَتِهِ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَعْلِيلَ الْعَفْوِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ وَالْوَعِيدَ عَلَى الْغَدْرِ بَعْدَهُ عِنَايَةً بِهِ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْغِيرَ شَأْنِهِ. وَبَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ لِوَضْعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، كَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ وَالدَّلَائِلِ لِلْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ، بِهَذِهِ يُعْرَفُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبِتِلْكَ يُعْرَفُ الْعَدْلُ وَمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمَصَالِحِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَبْعَثَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَأَدْعَى إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ - وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ بِأُسْلُوبٍ لَا يُسَامَى، وَعِبَارَةٍ لَا تُحَاكَى، وَاشْتُهِرَ أَنَّهَا مَنْ أَبْلَغِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُعْجِزُ فِي التَّحَدِّي فُرْسَانَ الْبَيَانِ، وَمِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ فِيهَا أَنْ جَعَلَ فِيهَا الضِّدَّ مُتَضَمِّنًا لِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَيَاةُ فِي الْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ الْقِصَاصُ، وَعَرَّفَ الْقِصَاصَ وَنَكَّرَ الْحَيَاةَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ نَوْعًا مِنَ الْحَيَاةِ عَظِيمًا لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُجْهَلُ سِرُّهُ.
ثُمَّ إِنَّهَا فِي إِيجَازِهَا قَدِ ارْتَقَتْ أَعْلَى سَمَاءٍ لِلْإِعْجَازِ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ كَلِمَةً فِي مَعْنَاهَا عَنْ بَعْضِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ يَعْجَبُونَ مِنْ إِيجَازِهَا فِي بَلَاغَتِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الطَّاقَةَ لَا تَصِلُ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ غَايَتِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. وَإِنَّمَا فُتِنُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ
وَظَنُّوا أَنَّهَا نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْبَيَانُ، وَيُفْصِحَ بِهِ اللِّسَانُ ; لِأَنَّهَا قِيلَتْ قَبْلَهَا كَلِمَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا لِبُلَغَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إِحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. وَقَوْلِهِمْ: أَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ.. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ ((الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ)) أَبْلَغُهَا، وَأَيْنَ هِيَ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ الْعُلْيَا، وَحِكْمَتِهِ الْمُثْلَى؟
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَبَيَانُ التَّفَاوُتِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَخْصَرُ مِنَ الْكُلِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: (فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أَشَدُّ اخْتِصَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ; أَيْ لِأَنَّ حُرُوفَهُ أَقَلُّ. (وَثَانِيهَا) أَنَّ قَوْلَهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ،

صفحة رقم 105
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية