
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح.
وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
تفسير المفردات
المثل والمثل والمثيل كالشّبه والشّبه والشبيه وزنا ومعنى، ثم استعمل في بيان حال الشيء وصفته التي توضحه وتبين حاله كقوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) إلخ.
وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) واستوقد النار: طلب وقودها، أي سطوعها وارتفاع لهبها بفعله أو فعل غيره، ويقال ضاءت النار وأضاءت وأضاءته النار، أي أظهرته بضوئها.
وترك: أي صير. والصمم آفة تمنع السماع. والبكم: الخرس. والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر.
المعنى الجملي
نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها، فضرب الأمثال التي تجلى المعاني

أتم جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر، وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين، فصوّر حالهم حينما أسلموا أوّلا ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثم داخلهم الشكّ فيه فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين- بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن، جاءها عارض خفىّ أو أمر سماوىّ كمطر شديد، أو ريح عاصف جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنى لهم الإبصار بحال.
ثم جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمى الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شىء من ذلك فكأنه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى؟
الإيضاح
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي مثل المنافقين وحالهم كحال الذين استوقدوا نارا، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء، أطفأ الله نارهم التي منها استمدوا نورهم بنحو مطر شديد أو ريح عاصف فصيرهم لا يبصرون شيئا، لأن النور قد زال ولم يبق منه أثر ولا عين.