
وقوله تعالى جلت قدرته وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لفظ خبر يتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك، وقوله تعالى: وَما بَعْضُهُمْ الآية، قال السدي وابن زيد: المعنى ليست اليهود متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم، وقال غيرهما: معنى الآية: وما من أسلم معك منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم بمتبع قبلة من أسلم.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر في الأبعاض، وقبلة النصارى مشرق الشمس وقبلة اليهود بيت المقدس.
وقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ الآية، خطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي ﷺ ظلما متوقعا فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي ﷺ وقطعنا أن ذلك لا يكون منه فإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب النبي ﷺ تعظيما للأمر.
والأهواء جمع هوى، ولا يجمع على أهوية، على أنهم قد قالوا: ندى وأندية. قال الشاعر: [مرة بن محكان] :[البسيط]
في ليلة من جمادى ذات أندية | لا يبصر الكلب في ظلمائها الطّنبا |
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٩]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء، والخبر يَعْرِفُونَهُ، ويصح أن يكون في موضع خفض نعتا للظالمين ويَعْرِفُونَهُ في موضع الحال.
وخص الأبناء دون الأنفس وهي ألصق، لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه، والمراد هنا معرفة الوجه وميزه لا معرفة حقيقة النسب، ولعبد الله بن سلام رضي الله عنه في هذا الموضع كلام معترض يأتي موضعه إن شاء الله، والضمير في يَعْرِفُونَهُ عائد على الحق في القبلة والتحول بأمر الله إلى الكعبة، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والربيع، وقال قتادة أيضا صفحة رقم 223

ومجاهد وغيرهما: هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون صدقه ونبوته، والفريق الجماعة، وخص لأن منهم من أسلم ولم يكتم، والإشارة بالحق إلى ما تقدم من الخلاف في ضمير يَعْرِفُونَهُ، فعم الحق مبالغة في ذمهم، وهُمْ يَعْلَمُونَ ظاهر في صحة الكفر عنادا.
وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، الْحَقُّ رفع على إضمار الابتداء والتقدير هو الحق، ويصح أن يكون ابتداء والخبر مقدر بعده، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه الْحَقُّ بالنصب، على أن العامل فيه يَعْلَمُونَ، ويصح نصبه على تقدير: الزم الحق.
وقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، الخطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، وامترى في الشيء إذا شك فيه، ومنه المراء لأن هذا يشك في قول هذا، وأنشد الطبري- شاهدا على أن الممترين الشاكون- قول الأعشى: [المتقارب]
تدر على اسؤق الممترين | ركضا إذا ما السراب ارجحن |
وقوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
الآية، الوجهة: فعلة من المواجهة كالقبلة، وقوله:
وَعائد على اللفظ المفرد في «كل»، والمراد به الجماعات.
المعنى: لكل صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه، قاله الربيع وعطاء وابن عباس، وقرأ ابن عباس وابن عامر وحده من السبعة هو مولاها، وقالت طائفة: الضمير في وَ/ ١٤٨
عائد على الله تعالى، والمعنى: الله موليها إياهم، وقالت فرقة: المعنى في الآية أن للكل دينا وشرعا وهو دين الله وملة محمد وهو موليها إياهم اتبعها من اتبعها وتركها من تركها، وقال قتادة: المراد بالآية أن الصلاة إلى الشام ثم الصلاة إلى الكعبة لكل واحدة منهما وجهة الله موليها إياهم، وحكى الطبري أن قوما قرؤوا لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
بإضافة كل إلى وجهة، وخطأها الطبري.
قال القاضي أبو محمد: وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع، وقدم قوله: كُلٍّ وِجْهَةٌ
على الأمر في قوله:
سْتَبِقُوا
للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنه وسلمت الواو في وجهة ولم تجر كعدة وزنة لأن جْهَةٌ
ظرف وتلك مصادر فسلمت للفرق، وأيضا فليكمل بناء الهيئة كالجلسة، قال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم، ومال قوم إلى أنه اسم ليس بمصدر.
قال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة.
قال القاضي أبو محمد: وقد يقال الجهة في الظرف، وحكى الطبري عن منصور أنه قال: نحن نقرؤها «ولكلّ جعلنا قبلة يرضونها». صفحة رقم 224