آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُئم الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة، فإن الإنسان لَا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لَا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم؛ فكذلك لَا يجهلون الرسول الأمين - ﷺ -، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام، وهو ممن آمن من أهل الكتاب: أتعرف محمدًا - ﷺ - كما تعرف ابنك؟ فقال عبد الله بن سلام: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لَا أدرى ما كان من أمه، والضمير في قوله (يَعْرِفُونَهُ) يعود على النبي - ﷺ -؛ لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما.

صفحة رقم 453

ومعرفة أهل الكتاب للنبي - ﷺ - معرفة لرسالته، وما جاء به من حلال وحرام، وللأرض التي يبعث منها، ولقومه الأميين، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧).
وإن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد - ﷺ - قسمين: قسم آمن واهتدى، وقسم كابر وعاند فغوى؛ ولذلك قال: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبي - ﷺ - مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه، وكانوا يستفتحون به على المشركين، وعبر سبحانه وتعالى عن النبي وشريعته، وأظهر في موضع الإضمار، فقال: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة، فهم يكتمون الحق، ومن يكتم الحق يكتم النور، ولابد من أن يظهر، ثم أكد فساد نفوسهم، فقال: (وَهُمْ يَعْلَمُون)، أي والحال أنهم يعلمون أنه حق، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد، فهم يعلمون أن فعلهم إثم ويعلمون نتائج ذلك الإثم، ولكنهم في غيٍّ دائم وضلال مستمر.
هذا شأن الذين يعلمون الحق ويكتمونه، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به، ويؤمن به، وقوله تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قد يشير إلى أن هناك من لَا يعلم، كما قال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم؛ إذ إن النبي - ﷺ - دعاهم إلى الحق.
وإن النبي - ﷺ - كان يجاور اليهود، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم؛ ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين، حتى لَا تجرهم المودة إلى أهوائهم، أو الشك فيما عندهم؛ ولذا قال تعالى: (الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

صفحة رقم 454

بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لَا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه، بعد هذا بين أن ما عند النبي - ﷺ - والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال:

صفحة رقم 455
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية