الإسلام «١»، أي هي من الإيمان وخصائصه، ولا يتم الإيمان إلا بها، ولأنها تشتمل على نيّة وقول وعمل.
والخلاصة: لم يختلف المسلمون أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي بالمدينة إلى بيت المقدس بعد الهجرة مدة من الزمان، فقال ابن عباس والبراء بن عازب: كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النّبي صلّى الله عليه وسلّم لسبعة عشر شهرا. وقال قتادة: لستة عشر شهرا، وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة، ثم حوّلها إليها بقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «٢»، وهي الآية التالية التي نفسرها.
تحويل القبلة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٧]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٨٤- ٨٥
الإعراب:
قَدْ للتحقيق في رأي السيوطي، وقال الزمخشري: بمعنى ربما، وهي للتكثير هنا، ومعناه كثرة الرؤية، فهي مثل «ربما» تأتي للكثير والقليل، مثل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر ١٥/ ٢] أي كثيرا. ونرى هنا بمعنى الماضي، ذكر بعض النحاة: أن «قد» تقلب المضارع ماضيا، مثل ما هنا، ومثل: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور ٢٤/ ٦٤] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر ١٥/ ٩٧] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب ٣٣/ ١٨] والمعنى قد علمنا أو رأينا.
وَلَئِنْ لام القسم. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ الفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها. فَوَلِّ الفاء للتفريع.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مرفوع، إما مبتدا وخبره محذوف، وتقديره: الحق من ربك يتلى عليك، أو يوحى إليك أو كائن، وإما خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هذا الحق من ربك.
البلاغة:
فَوَلِّ وَجْهَكَ أطلق الوجه، وأريد به الذات، من قبيل المجاز المرسل، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هي أبلغ من الجملة السابقة، لأنها جملة اسمية، ولتأكيد نفيها بالباء.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التحريض على الثبات على الحق.
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي يعرفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم معرفة واضحة كمعرفة أبنائهم.
المفردات اللغوية:
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد نظرك مرة بعد مرة في جهة السماء، طلبا للوحي، وتشوقا للأمر باستقبال الكعبة، وكان يودّ ذلك، لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام، ولأنها أدعى إلى إسلام العرب، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فلنوجهنك جهتها، وهذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. فَوَلِّ وَجْهَكَ تولية الوجه المكان: جعله قبالته وأمامه، والمراد بالوجه: جملة البدن، أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وجهته أو ناحيته، وسميت الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب على البعيد مراعاة الجهة، دون عين الكعبة: لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد، كما قال الزمخشري.
بِكُلِّ آيَةٍ أي بكل برهان وحجة. أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها، مفرده: هوى، وهو الإرادة والمحبة. الْمُمْتَرِينَ الشاكين.
تاريخ النزول:
اختلف العلماء في تاريخ نزول هذه الآيات:
فقال ابن عباس والطبري: هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ «١»، ويؤيده ما
رواه البخاري عن البراء بن عازب في الحديث المتقدم، قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ.
فقال السّفهاء من الناس، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى:
قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
وقال الزمخشري: إن هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ويكون ذلك للإخبار بمغيّب قبل وقوعه، يحدث من
اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة، معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعدّ له، فيكون أقل تأثيرا عند المفاجأة، ولإعداد الجواب المسبق، وهو قوله تعالى: قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «١».
سبب نزول الآية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ:
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده، إذا رآه مع الغلمان، قال عبد الله بن سلام: لأنا أشدّ معرفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقّا يقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام.
المناسبة أو وجه الربط بين الآيات:
كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يتشوّق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنها أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة؟ فكره النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبلتهم، حتى روي أنه قال لجبريل: وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها.
قال أبو حيان: ولما كان صلّى الله عليه وسلّم هو المتشوّف لأمر التحويل بدأ بأمره أولا، ثم أتبع أمر أمته ثانيا، لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلّى الله عليه وسلّم «٢».
(٢) البحر المحيط: ١/ ٤٣٠
ولما ذكر الله تعالى ما قاله سفهاء اليهود عند تحويل القبلة، ذكر في هذه الآيات أن إعراض أهل الكتاب عن رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن لشبهة تحتاج إلى إزالة، وإنما لعناد ومكابرة، وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم من جحود أهل الكتاب الذين طمع في إسلامهم، وتضايق من تكذيبهم.
التفسير والبيان:
كثيرا ما نرى تردد نظرك في جهة السماء، حينا بعد حين، متشوقا للوحي، متلهفا لتحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، وهو في هذا لا يعدّ معارضا أمر ربه، لأن صفاء نفسه يجعله يتطلع إلى ما يظنه خيرا، ويقدر فيه مصلحة.
ولكونك تتطلع إلى التحويل، لنمكننك من استقبال قبلة تحبها غير بيت المقدس، لهدف سليم في نفسك هو أن يجتمع الناس على قبلة مخصوصة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويتحقق من وراء ذلك خير عظيم. فاصرف وجهك نحو أو تلقاء المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة.
وفي ذكر الْمَسْجِدِ الْحَرامِ دون الكعبة، مع أنها القبلة على ما ثبت في الأحاديث، إشارة إلى أنه يكفي للبعيد الذي لا يعاين الكعبة محاذاة جهة القبلة حين الصلاة. ويؤكده الأمر الإلهي لعموم المؤمنين، وهو قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي وفي أي مكان كنتم، فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من فَوَلِّ وَجْهَكَ ويدل على أن المصلي في مختلف البقاع يتجه نحو القبلة، سواء أكان إلى الشرق أم إلى الغرب، وإلى الشمال أم إلى الجنوب الجغرافي، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
والسبب في تأكيد الأمر باستقبال المؤمنين القبلة بعد أمر النّبي بها، مع أن
خطاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته: هو الاهتمام بشأن قبلة الكعبة، فإنها حادث عظيم، كان نقطة تحول في وضع أساس الاستقلال في عبادة المسلمين، وإنهاء الاتجاه نحو قبلة بيت المقدس، ولكي تشتد عزيمة المؤمنين وتطمئن قلوبهم، فيقضون على الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ويضربون بأقوالهم عرض الحائط، ويثبتون على اتباع الرسول، ولدفع توهّم أن القبلة باتجاه الشام. لكل هذا كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة:
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
ثم عاد القرآن لمناقشة أهل الكتاب الذين اشتركوا في تحريك الفتنة العظمى بعد تحويل القبلة، فقال: إن أهل الكتاب الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا- بما أنزل إليهم في كتبهم في شأن النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به، وأنه سيصلي إلى القبلتين: بيت المقدس وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتبع ملته- أن تحويل القبلة حق لا شك فيه، وأنه أمر الله، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق، وترويج الباطل، وما الله بغافل عن أعمالهم، بل مجازيهم عليها.
وجيء بجملة: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراضا بين الكلامين:
المتقدم عنها والمتأخر لوعد الفريقين ووعيدهم.
ثم أوضح القرآن سبب الفتنة وإعراض الكتابيين عن دعوة الإسلام، تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له، فقد أخبره أولا أنهم يعلمون أنه الحق وهم يكتمونه ولا يعملون بمقتضاه، ثم سلاه عن قبولهم الحق باتخاذ موقف معين: وهو التزام موقف المعارضة عنادا ومعاداة، فقال: ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة على أن الحق وهو تحويل القبلة من ربهم، أملا في اتباع قبلتك، ما اقتنعوا ولا صدقوا به، ولا اتبعوك، عنادا منهم ومكابرة، فهم لن يتبعوا قبلتك رغم البرهان الساطع على الحق الإلهي المأمور به، وهو توجهك إلى
الكعبة «١»، ولن يكون منك اتباع قبلتهم بعد اليوم، قطعا لأطماعهم في الاتجاه إلى بيت المقدس، وكيف يرجى ذلك، فهم ليست لهم قبلة واحدة، فعيسى كانت قبلته مع موسى، ولكن بعد موت عيسى وتحريف الإنجيل اتخذ النصارى قبلة أخرى. وأما أنت يا محمد فعلى قبلة إبراهيم الذي يقدره جميع أهل الملل، فهي الأجدر بالاتباع، ولا فائدة ترجى من اتباع قبلتهم.
وكل من اليهود والنصارى لا يغيّر الاتجاه إلى قبلته، فلا تترك اليهود قبلتها وتتجه نحو المشرق، ولا تترك النصارى قبلتها وتتجه نحو الغرب، لأن كلّا منهم متمسك برأيه، حقا كان أو باطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، وإنما يسير على منهج التقليد الأعمى.
ثم هدد الله نبيه، لتعرف أمته خطر مخالفة كلام الله، واتباع أهواء الناس، فقال: ولئن اتبعت يا محمد ما يريده أهل الكتاب، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم، وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين واضحا، والعلم القاطع الذي لا شك فيه وهو الدلائل والآيات التي تفيدك العلم وتحصله، لتكونن من الظالمين أنفسهم، المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة، وهذا في الحقيقة خطاب للمؤمنين لاستبعاد خاطر أو فكرة اتباع أهواء القوم استمالة لهم.
وجملة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ هي جواب القسم المحذوف، الذي أو أومأت إلى تقديره اللام في لَئِنْ ودلّ على جواب الشرط.
ودليل معرفة الحق من قبل أهل الكتاب: أنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلّم بما بشرت به كتبهم، وذكرته من صفات لا تنطبق على غيره، فهم يعرفون النّبي كمعرفتهم التامة بأبنائهم. وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا هذا الحق الواضح الذي يعلمونه من كتبهم، وهو نبوة محمد، وأن الكعبة قبلة.
ثم أعلن القرآن قاعدة وطيدة عامة: وهي أن الحق ما كان من عند الله وحده، لا من غيره، ويتمثل هذا الحق فيما أمر الله به في القرآن، فهو مما لا شك فيه، فلا تكن يا محمد، وبالأولى غيرك، من الشاكّين في أحقية وصدق ما أنت عليه وهو ما أتاك من ربك من الوحي، ولا تتبع أهواء وأوهام الضالّين الذين لم يتبعوك فيما أمرك الله به، فالقبلة التي تتجه إليها الآن- وهي الكعبة- هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء.
والنهي في هذه الآية كالوعيد السابق في آية: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ...
موجّه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به من كانوا غير ثابتي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم الاغترار بأباطيل المخادعين، والتأثر بأقاويل أهل الفتنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
اتفق المسلمون- بناء على هذه الآية- على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في حال الخوف أو الفزع، وفي صلاة النافلة على الراحلة (الدابة أو السفينة أو الطائرة)، فإن القبلة حال الخوف جهة الأمن، وفي حال الركوب حيث توجهت به الراحلة.
واتفق العلماء على أن الكعبة قبلة في كلّ أفق، وعلى أن من شاهدها وعاينها، فرض عليه استقبال عينها، فإن ترك استقبالها وهو معاين لها، فلا صلاة له، وعليه إعادة كلّ ما صلّى. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة، وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة.
وأجمعوا على أن كلّ من غاب عنها عليه أن يستقبل ناحيتها وشطرها، فإن خفيت عليه، فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من موقع الشمس، والنجوم، والبوصلة المعروفة، وغير ذلك.
وهل القبلة للغائب عين الكعبة أو الجهة؟
قال الشافعية: فرض الغائب إصابة عين الكعبة، لأن من لزمه فرض القبلة، لزمه إصابة العين، كالمكي، ولقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي أنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين.
وقال الجمهور غير الشافعية: فرض الغائب إصابة جهة الكعبة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي وابن ماجه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»
وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الفرض إصابة عين الكعبة، لما صحّت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها. ويؤكده قول ابن عباس رضي الله عنهما: الكعبة قبلة من في المسجد، والمسجد قبلة من خارجه في مكة، ومكة قبلة سائر الأقطار. وهذا مأخوذ من حديث سيأتي.
قال القرطبي: استقبال الجهة هو الصحيح لثلاثة أوجه:
الأول- أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي في أي مكان كنتم من الأرض في شرق أو غرب، فاتجهوا شطر المسجد الحرام.
الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت «١». وهذا هو الراجح لدي، لعدم إمكان استقبال العين، وللتيسير على الناس،
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيت قبلة
لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».
وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة:
أجاز الحنفية القائلون بأن القبلة الجهة- من قرار الأرض إلى عنان السماء- الصلاة فرضا أو نفلا فوقها، مع الكراهة، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، وترك التعظيم الواجب لها، ونهي النبي عنه.
وأجاز الشافعية الصلاة فرضا أو نفلا على سطح الكعبة إن استقبل من بنائها أو ترابها شاخصا (سترة) ثابتا، كعتبة، وباب مردود أو عصا مسمّرة أو مثبتة فيه، قدر ثلثي ذراع تقريبا فأكثر بذراع الآدمي، وإن بعد عن الشاخص ثلاثة أذرع.
وأباح الحنابلة أيضا صلاة النافلة على سطح الكعبة، ولكن لا تصح عندهم صلاة الفريضة، لقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والمصلي على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة، بدليل صلاتها قاعدا، أو إلى غير القبلة في السفر على الراحلة.
ومنع المالكية من صحة الصلاة فوق الكعبة، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها.
ودلّ قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، وإلا كان متجها إلى غير شطر المسجد الحرام. وهذا مذهب مالك. وقال الجمهور: يستحب أن ينظر المصلي قائما إلى موضع سجوده. وأضاف الحنفية: وينظر المصلي حال الركوع إلى قدميه، وحال السجود إلى أرنبة أنفه، وحال الجلوس إلى حجره. وهذا الرأي هو الأصح،
لتحقق الاستقبال والتوجه شطر المسجد الحرام، وأما النظر إلى هذه المواضع فلمنع المصلي أن يتشاغل في الصلاة بغيرها إذا لم يحصر بصره في هذه الجهات التي عينوها للنظر. وبهذا الأمر: فَوَلِّ وَجْهَكَ.. نسخ التوجه إلى بيت المقدس.
وأرشدت الآية (١٤٥) إلى أن زحزحة أهل الكتاب عن دينهم أو قبلتهم أمر ميئوس منه، مهما حاول الإنسان إقناعهم، لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، ولا تنفعهم الآيات، أي العلامات الدالة على صدق رسالة الإسلام ووجوب اتباعه، وأنه لو أقام النبي عليهم كلّ دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لفظ خبر، ويتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك.
ثم أخبر الله تعالى أن اليهود ليست متّبعة قبلة النصارى، ولا النصارى متّبعة قبلة اليهود، وهذا دليل على اختلافهم وتدابرهم وضلالهم.
والخطاب في قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بعض أمته، وهو من يجوز أن يتّبع هواه، فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته، لعصمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقيننا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم تعظيما للأمر، ولأنه المنزل عليه القرآن. وكذلك قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكّين، الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته.
ومما يوضح عناد أهل الكتاب واستكبارهم عن قبول الإسلام أو الحق: أنهم ولا سيما علماؤهم يعرفون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق رسالته، كما يعرفون أبناءهم،
وخصّ الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس، لأن الإنسان قد ينسى نفسه، ولا ينسى ابنه. روي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه، إلى أمينه في أرضه، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمّه.
وأهل الكتاب يكتمون الحق يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ويعلمون نبوته، وهذا ظاهر في صحة الكفر عنادا، مثل قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل ٢٧/ ١٤]، وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة ٢/ ٨٩].
والحق: وهو استقبال الكعبة وغيره، من الله، لا ما أخبر به اليهود من قبلتهم، ولا ما أخبر به النصارى، فالقول الفصل هو للوحي الإلهي، لا لأهواء الجاحدين.
والمراد بالخطاب في قوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في المعنى هو الأمة. والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل، فقولك: لا تكن ظالما أبلغ من قولك: لا تظلم.
والخلاصة: أن جحدهم تحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنهم يعلمون علم اليقين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومتى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه.